سأنشر هنا تجربة خاصة عن كيف يرى السجين السياسي المُطُلق
سراحه الحياة بعد السجن في العهد الناصري ..
واعرف ألان( في عصر السيسي) كيف يرى السجين السياسي
المفترض انه كان يناضل سلميا بدون سلاح بعد إطلاق سراحه
لانقضاء مدة حبسه بالكامل . كيفية . تلفيق قضايا جديدة له أو إعادة
قضايا تمت محاكمته فيها لكن بمسميات أخرى والأمثلة حية مثل
علاء عبد الفتاح و زياد العليمي وغيرهما ممن لا أتذكر أسمائهم وقد
نشرت" ويب سايت " المنصة منذ وقت تجربة المناضل خالد داوود
الاستاذ الجامعي و نائب رئيس حزب الدستور و كيفية اختطافه
وكيفية اطللاق سراحه- بعد شهور طويلة من الحبس اللا إنساني -
بدون توجيه تهمة و اضحة له (!) بل و تجربة الكاتب الصحافي احمد
ناجي وسجنه سنتين تحت تهمة ملتبسة هي "خدش الحياء العام "
وقد نشر تجربته في كتاب بعنوان "حرز مكمكم – " دار الكرمة .
عام 1960 – ديسمبر في ليلة عيد الكريسماس..
كنت راجع إلى شقتنا الصغيرة في دير الملاك وهو حي عشوائي تم بناء
المساكن فيه بالقرب من دير للاقبط الارذوثكس اعتقد أن اسمه دير رئيس
الملائكة ميخائيل .. شقتنا كانت في بناية من أربع طوابق لازقة في كنيسة
الإنجيليين " غرفتان صغيرتان و صالة " في شارع مترب غير مسفلت
اسمه " منقريوس " ..كانت الدنيا ليل يعني في حدود الثامنة مساء نحن في
عز الشتا و عز شهر ديسمبر بل نهايته تقريبا .. يومها التقيت في النهار
الشاعر الشيوعي السوداني "جيلي عبد الرحمن " فقد كنا نلتقي بشكل
دوري نبحث سويا عن مكان آمن نختبئ فيه من المباحث ووجدنا عوامة
صغيرة
( وجدها جيلي ) من غرفتين صغيرتين باجر معقول وكان علينا أن فرشها
بأثاث بسيط حتى يمكننا الحياة فيها . يومها أي صباح اربعة و عشرين
ديسمبر .. قال لي جيلي انه عرف أن المباحث ألقت القبض على شخصين
من خريجي قسم الصحافة الذي كنت ادرس فيه و حصلت على الليسانس
منه منذ بضعة شهور ..
سألني أن كنت اعرفهما " سامي خشبة و حسين شعلان " فاندهشت كثيرا
للقبض عليهما و قلت "اه اعرفهما لكن لا اعرف أية علاقة تربطهما
بالشيوعية .. "
أضفت " أن سامي كان معروفا باتجاهاته القومية القريبة من حزب البعث
" وانهينا اللقاء و ذهب كل منا إلى سبيله على أمل اللقاء في الغد لنستقر
في العوامة و تختبئ من المباحث و الناس الذين يعرفوننا . كانت ليلة اربعة
و عشرين ديسمبر علم 1960 وذهبت إلى شقة "طنط استر " في عمارة
السعوديين في العجوزة أحاول أن استدين أو اخذ بضعة جنيهات تساعدني
على الاحتفاء .. كانت طنط استر ( زوجة عم الدكتور داوود اسكندر طبيب
أمراض النساء بالخرطوم ) قد استأجرت هذه الشقة لتكون مع بنتيها
سنية و سميرة(سميرة تمت ولادتها - مثلي- في شهر مارس و في نفس
العام 37 ) و هما تدرسان الطب في القصر العيني .. وكنت اذهب إلى هذه
الشقة بشكل شبه منتظم شبه يومي اقضي وقتا طويلا بها مبتعدا عن شقتنا
الكئيبة و نقار ونكد آمي ..
يومها كانت البنتان متواجدتان بالشقة و تعلقان المصابيح الملونة في
شجرة عيد الميلاد وساعدتهما وطلبت من طنط استر معونة مالية لي
فأعطتني بضعة جنيهات .. وتعشيت مع العائلة وجلست معهن بعض
الوقت ثم ركبت مواصلاتي إلى دير الملاك .. ولمحت وأنا ادخل شارعنا أناسا
غرباء يمكن ثلاثة رجال يتسكعون بالقرب من بيتنا وأحسست بالغريزة أنهم
مباحث .. فكرت في الاستدارة و الجري .. لكن إلى أين ؟ حتى العوامة بعيدة
و ليس معي مفتاحها . فكذبت غريزتي وواصلت سيري و دخلت البيت و
أحسست أنهم سارعوا بالدخول خلفي على السلم المظلم و سألني رئيسهم (
في الغالب ) أن كنت أنا رءوف مسعد بسطا فأنكرت و قلت أني أخوه
رمسيس لكن إنكاري لم يفد وامروني بالصعود إلى شقتنا .. و بالطبع
قفشوني و فتشوا الغرفة التي أقيم فيها ولم يجدوا شيئا هاما و أخذوني
للتحقيق مباشرة معهم في سيارتهم إلي لا ظوغلي في حي السيدة زينب ثم
القوا ني في قسم شرطة في شبرا أي بعيدا عن منطقة حدائق القبة حيث دير
الملاك( حتى لا يعرف احد من أهلي مكاني ) ..
في القسم تعامل معي محو بسي الحجز باحترام بعد أن شعروا أني "
سياسة " وقدموا لي السجائر و الشاي و شاركوني ما تأتي به عائلاتهم
من شاي و طعام كنت مأزوما و إحساس بالخيبة العامة و الخاصة يملأ
روحي البائسة .
بقيت في القسم لمدة ليلتين حتى جائت سيارة الترحيلات ذات صباح
لتأخذني إلى سجن القناطر وفي السيارة التقيت بحسين شعلان و سامي
خشبة و عبد الحكيم قاسم و يحي مختار و شوقي خميس وابوسيف يوسف
ابو سيف و إسماعيل المهدوي و اخرين لم أكن اعرف من كل هؤلاء سوي
شعلان و خشبة و مختار ( ثلاثتهم من قسم صحافة ) لنستقر في سجن
القناطر و تبدأ رحلتي التي استمرت أربعين شهرا في سجون مصر.
ونسُاق إلى محكمة عسكرية ونقضي( بعضنا عدا يحي وشوقي فقد حكم
لهما بالبراءة مع اثنين آخرين ) نقضي بقية مدة السجن في معتقل
الواحات الخارجة ..
لكن لماذا الكتابة ألان عن السجن في مصر و عن المحابيس السياسيين ؟
لان تجربة السجن حاليا في عصر السيسي في مصر فاقت كل التصورات
الفانتازية الوحشية التي يتخيلها من لم يتم سجنه في عصر ناصر أو
السادات أو مبارك .. فقد كانت تجربة سجن المعارضين في عهد ناصر تتسم
بالقسوة المفرطة وكتب عنها البعض في وثائق هامة وكان السجناء الذين
تنقضي فترة سجنهم في سجون ناصر يحالون مباشرة إلى الاعتقال مرة
أخرى بدون الخروج حتى من السجن أو محاكمة شكلية .. هذا ما يتم ألان في
عهد السيسي سجن ثم اعتقال ثم تلفيق قضايا أهم عنوان لها " نشر أخبار
كاذبة تضر بالأمن القومي " و لا ننسى أن ناصر قدم معارضيه السياسيين
السلميين إلى محاكم عسكرية أسوأ ما بها إنها لا يمكن استئناف أحكامها !
مشكلة مصرية بامتياز - 2
لماذا اعتبر ناصر أن معارضيه الشيوعيين و أؤلئك الدينيين يجب التنكيل
بهم ؟
لماذا يعتبر حكاّم مصر أية معارض سلمية هي “إهانة " موجهة شخصيا
لهم فينكلون بالمعارضين السلميين ؟
هل نسينا كيف فتح حراس سجن طرة أو الليمان النار على السجناء
الإخوان في عصر ناصر داخل السجن فقتلوا منهم العشرات ؟
وهل نسينا سيارة الترحيلات في عصر السيسي التي كانت تنقل
محابيس إخوان إلى سجن صحراوي بعيد اختنقوا داخل السيارة من
الحر فهاجوا وماجوا وضربهم الضباط بالرصاص الحي فقتلوا منهم
العشرات ؟
فالسيسي أيضا يعتبر أن معارضيه السلميين يجب تأديبهم لأنهم –
حسب فهمه للحكم في مصر - تجرؤا على معارضته شخصيا وليس
على سياساته! وهو يعتبر أن لله وحه سبحانه و تعالى من له حق
حسابه !
كانت هذه رؤية ناصر لمعارضيه ورؤية السادات كما رؤية مبارك !
أي شخصنه حق المواطنين في المعارضة السياسية للحاكم واعتباره
عداء شخصيا منهم ضده فيجب التنكيل بهم !!
وهل نسينا قتلى رابعة التي لا نعلم حتى ألان أعداد قتلاها ؟
وهم سذج تم التغرير بهم وحشدهم في رابعة بينما هرب بديع و
زملائه وحصد الرصاص أرواح العشرات في رابعة وبعضهم جاء –
بسبب الفقر لا التعاضد - لان الأكل هناك في رابعة مجانا و شهيا ؟!
مشكلة مصر الأساسية أن الحاكم يتماهى مع سياسته و يعتبر أي
انتقاد لسياسته هو انتقاد لشخصه الفرعوني المقدس!
****
حينما خرجت من السجن( مع رفيقين اخرين يقيمان أصلا في الإسكندرية مع
عائلاتهما ) في ابريل 1964 بصحبة عسكري ترحيلات واحد وغليان ( بعد
تسجيل أسمائنا في وزارة الداخلية بلاظوغلي ) وركبنا القطار المتجه من
القاهرة إلى الإسكندرية وأقنعناه أن يفك القيود الحديدة من ايادينا بل و قمنا
باستضافته بشراء سندوتشات و شاي له ولنا حتى هدأت وساوسه واقتنع إننا
لن نهرب منه في القطار ( في الدرجة الثانية ) لكي يسلمنا ( تسليم يد ) إلى
الأقسام التابعة لها منازلنا مثل قسم شرطة باب شرقي التابعة له منطقة
كليوباطرا حيث شقتنا المتواضعة التي رأيتها ذلك المساء لأول مرة في حياتي
(!) في الطابق الثالث في بناية متوسطة متواجدة فوق خط و محطة ترام
كليوباطرا الصغيرة الذي يأخذك من محطة الرمل في وسط المدينة إلى آخر
الخط أي " باكوس "
وثمة ترام آخر من محطة الرمل إلى محطة النصر الذي كان اسمها سابقا قبل
" التمصير " فكتوريا " !
كنت لا ارتدي من ثيابي التي سُجنت بها من أربعين شهرا أي في أواخر
ديسمبر 1960 لا ارتدي شيئا أتذكره فقد ضاعت أو تمت سرقتها في التنقلات
بين سجن القناطر ثم سجن الحضرة بالاسكنرية ثم سجن أسيوط ترانزيت ثم
سجن الواحات " المحا ريق "
تم تلفيق ثياب ارتديها و حذاء ليس على مقاس قدمي بالضبط ( مثل عشرات
غيري ضاعت أجزاء من ثيابهم أو ثيابهم جميعها) .. وأنا في الحقيقة غير
مهتم.. فقد كنت مثل غيري من المحابيس المطلق سراحهم نطير بالفعل من
الفرحة .. فها انذا قادم من الصحراء الغربية مباشرة إلى مدينة الإسكندرية التي
أحبها دوما و ما أزال ( مع ليلة بيات في سجن أسيوط و أخرى في سجن
مصر ) لكن كله يهون فانا خارج من السجن نهائيا .. أنا ماشي للحرية يا
جدعان !
لكني سأكتشف بعد الصدمة الحضارية الأولى إنها حرية ناقصة و مشوهة
فانا لست سيدي الجديد لست حرا بالفعل بما فيه الكفاية مثل الناس الآخرين
الذين يتجولون في الشوارع على راحتهم
و " بحريتهم " ..
فما تزال الدولة تمتلكني عبر أجهزتها البيروقراطية الأمنية القمعية ..
فقد كنت اعرف انه يجب أن ادفع غرامة قدرها مائة جنيه مصري مرفقة
مع الحكم العسكري إضافة إلى "مراقبة" ومعناها أني لا ابرح بيتي أو شقتي
منذ غروب الشمس حتى شروقها في اليوم التالي (!) وإلا تم حبسي مرة أخرى
لعدة شهور و هكذا !!
لذا تحدد الداخلية مدة محددة للمراقبة هذه بعد الإفراج حسب "خطورتي " !
وحددت الداخلية ثلاثة أشهر مراقبة مع ثلاثة أشهر مصاريف !
وبحساب ذلك الزمن فقد كان خريج الجامعات يحصل على وظيفة في
الحكومة براتب شهري قدره خمسة عشر جنيها من المفروض – و بالفعل –
كان يفتح به بيتا : أي يتزوج و ينجب أبناء !
فما بلكم بمائة جنيه التي كانت مبلغا كبيرا و عزيزا أيامها ؟! ..
كانت آمي قد طلبت من أخي الأكبر "ادوار " الطبيب المهاجر منذ بداية
الستينات إلى أمريكا أن يرسل لي- أو يساهم بما يستطيع من الدولارات – في
مبلغ المائة جنيه لكنه اشترط أن اكتب له أنا شخصيا اطلب المبلغ فأنا ( من
وجهة نظره ) الذي تسببت في أن اسجن نفسي لقناعاتي السياسية الإلحادية (
هو يدعى الإيمان ) وعلي أن استجدي الفلوس .. فرفضت و قررت أن اعمل
في القسم إياه لمدة ثلاثة شهور سدادا للمائة جنيه كما حدتها مصلحة السجون
..
( يعني أن يوم عملي كان يساو تقريبا جنيها واحدا أو حاجة كده !)
***
فكنت اذهب من الصباح المبكر أي أكون في القسم في تمام الثامنة حتى الثانية
بعد الظهر.. ثم اجري لكي احصل رؤية فيلما من أفلام الساعة ثلاثة ناحية
منطقة الرمل أو قبلها حيث توجد سينمات اكتشفتها وأنا أتجول مشيا على قدمي
..
و أراقب ساعة يدي البسيطة التي اعطانيها أخي رمسيس الذي يقيم مع والدتي
في شقة اسكندرية حتى اجري مرة أخرى لمحطة الرمل قبل انتهاء الفيلم
لأكون في بيتي قبيل السادسة بدقائق حيث اسجن نفسي في الشقة طوال الليل
و حتى الصباح وسوف يوقظني رنين جرس الباب الملحاح ليلاتي في
منتصف الليل أو الفجر حيث يكون في الانتظار أمام الباب ضابط الشرطة
برفقة بعض العساكر و المخبرين ومعه الدفتر الصغير الذي يثبت فيه أني
كنت متواجد في الشقة تحت المراقبة ولم " اكسرها " كما أعطيه الدفتر
الخاص بي الذي تسلمته من قسم الشرطة لكي يوقعه أيضا فيه " بالتمام "
وارجع مرة أخرى إلى فراشي أحاول أن أنام.
فكسر المراقبة يستوجب قضية و حكما بثلاثة أشهر سجنا أو أكثر..
هكذا كان يومي يبدأ .. وهكذا كان يومي ينتهي .
كان أخوالي المقيمون في شارع دانتيمارو الذي يفتح على الكورنيش و البحر
بالقرب من مبنى الجزويت الثقافي و الديني في منطقة سيدي جابر الشيخ أي
شارع بورسعيد يلتقون بنا أنا وأمي يوم الجمعة وأحيانا أياما كثيرة من
الأسبوع حيث أسوق والدتي مشيا من بيتنا لبيتهم( مشوار صغير و بسيط )
فقد ضعف بصرها و أصبحت شبه عمياء و مرعوبة من حركة السيارات ..
نتناول الغذاء و نقيل عندهم ويعطيني أخوالي جنيهات قليلة أحيانا أي ليست
كل أسبوع ؛ لكن حينما يتيسر لهم غالبا أول الشهر ..
كما تعطيني اختى الأكبر "وداد " التي تسكن فوقنا في نفس البناية و هي
مدرسة للغة الانجليزية ومتزوجة و عندها طفلين . تعطيني أيضا جنيهات
قليلة من وقت لأخر ..
كما كان أخي رمسيس الذي يكبرني بسنتين وهو مدرس في مدرسة ثانوية في
طنطا و يقاربني في الحجم و المقاس و يحب ارتداء الثياب الأنيقة .. يتكفل
بإعطائي بعض ملابسه ارتديها وكذا اختار حذاء من أحذيته . وبقيت على
هذه الحال طوال مدة المراقبة و المصاريف و ما بعها حتى استطعت الفكاك
من اسكندرية و الإقامة في القاهرة حينما أمر ناصر بالعفو الشامل وأعاد لنا
بعض حريتنا المنقوصة الشوهاء ..
ساعتها عملت بالقطعة في تحرير مجلة آخر ساعة .. ليس عملا صحافيا بل
"مراجعة " المواد وتوضيبها صحافيا .
***
وإذا ما ابتعدت عن صيغة " الجمع" و تكلمت بصيغة " الأنا المفرد " فإني
أكون أكثر دقة في وصف ما حدث لي منذ ليلتي الأولى في شقتنا بالإسكندرية
..
كنت تائها و ضائعا و مفلسا .. إحساس التوهان - النفسي - الذي لازمني
فترة طويلة هو إحساسي الداحلي في شقة لسكندرية و في اسكنرية كلها.
لازمني إحساس بأني " زائد عن الحاجة " وسط أهلي كلهم بما فيهم أخوالي و
خالاتي لكنهم بالطبع لم يفصحوا و لم يؤكدوا مخاوفي التي لم أفصح بها و
عنها ..
وكنت أيضا ابحث عن رفقة نسائية و عن الجنس و عن الحب ..
لكن كيف يتأتى لي هذا وأنا لم أكن سيد وقتي كما بينت هنا إلا في يوم الجمعة
حيث كانت آمي تجبرني أن أسير معها حتى نصل شقة أخوالي في دانتيمارو
و نقيل هناك حتى الغروب نتغدى و نشرب الشاي( كانت خالاتي يتفنن في
عمل غذاء غالبا سمك بالفرن و يطبخن أحسن بكثير من والدتي شبه العمياء )
.. ثم نرجع سويا إلى شقتنا فإذا كانت معي فضلة من نقود اترك آمي في الشقة
و اخذ الترام متجها إلى محطة الرمل أحاول اللحاق بسينما أو إذا لم يكن معي
ما يكفي من نقود أتمشى الهوينا في منطقة الرمل أتفرج على الدنيا ..
وكنت مثل مئات الشيوعيين المصريين الذين ليست لهم مكانة قيادية في
تنظيماتهم نعيش في تناقض غريب و كابوسي .. فنحن في داخلنا نؤمن إن
تنظيماتنا التي " حلت نفسها " اختارت الطريق السياسي الصحيح حتى
نستطيع أن "نعمل " مع ناصر لبناء الاشتراكية في مصر . بل ها هو
خروشوف بذات نفسه و جلالة قدره سوف يزور مصر ليفتتح مع ناصر أهم
مشروع قومي مصري أي المرحلة الأولى من السد العالي ..
لكن كنت مثل المئات أيضا ما أزال اعمل مصاريف في قسم الشرطة و ما
أزال تحت المراقبة من غروب الشمس حتى شروقها ,, أي نعمل بالسخرة في
القسم و نبيت مثل الدجاج و نحن تحت العين الساهرة للأمن المصري
الناصري الذي نؤيد عبد الناصر كشخص ونخاف من الأمن كأمن يحمي
بلادنا كما فهمنا من " الأعداء " .
وما يزال السيسي يستخدم نفس الحيلة واخترع اصطلاح " الأشرار " وهو
اصطلاح ديني يتناسب مع هويته الدينية .. بدلا من الأعداء ..
لذا كانت ثورة يناير 2011 حدثا بالغ الأهمية وهو مواجهة الحاكم العسكري -
الفرعون الذي يحكم بشكل كأنه " إله " بلا منازع - الفرعون القادم من
الجيش.. وللجيش المصري في قلوب المصريين و أفئدتهم مكانة عالية
تقترب من التقديس خاصة بعد المعارك التي خاضها الجيش وأهمها معركة
أكتوبر / رمضان 1973 التي حررت الأرض المصرية المحتلة .. أو كادت
..
لذا لعب المجلس العسكري الذي حدده مبارك ليرث الحكم ووافق عليه الشعب
لعب دورا كبيرا للغاية في الاستيلاء على الحكم مستغلا محبة المصريين
للجيش ( الجيش و الشعب ابد واحدة !!) ..
فالبرعم من أن الشعب المصري استطاع لأول مرة في تاريخه الحديث أن
يثور على حاكمه المسنود بقوة الجيش و يطيح به لكن "قوة الجيش " ومحبته
المتغلغلة بعمق في الشعب المصري كانت اقوي من منطق بسيط ومن
أحلام الشعب المصري فأجهضت ثورة لا مثيل لها في نبلها ..
فإذا ما رجعنا نصف قرن إلى الوراء أي منتصف الستينات حينما تم
الإفراج عنا كان الإحساس الذي يغمرني هو " واسفاه لقد ضيعت كل
هذه السنوات على فاشوش "
فها أنا مثل شحاذ أكاد اشحذ طعامي اليومي مع أني وجدت سقفا في
شقة آمي الصغيرة لكن إحساسي دوما انه سقف مؤقت (!)
بل أن مصر كلها كانت بالنسبة لي مكانا مؤقتا فلم اشعر بالأمان فيها
حتى غادرتها "مؤقتا " عام 1970 لأرجع لها – مرغما – عام 1982
من لبنان بعد غزو اسرائل للبنان و طرد المقاومة الفلسطينية منه.
لأغادر مصر نهائيا عام 1990 لاستقر – نهائيا أيضا في هولندا
لأشعر لأول مرة في حياتي بإحساس حقيقي بالأمان وأنا قد تجاوزت
الخمسين من عمري فأبدا في تأسيس آسرة و أبدا بالاستقرار النفسي
و ابدأ بالرجوع مرة أخرى للكتابة التي أهملتها !
أي ابدأ بنفسي بأن اكسر ظلماتي التي كانت تحيط ني و تأسرني
بسلاسلها و اخرج إلى النهار
التعبير من عنوان للمصرين القدماء هو " الخروج إلى النهار "
وهو يجمع نصوص و تعاويذ تساعد روح الميت على اقتحام ظلمات
القبر و الخروج إلى النهار !
كان من المسموح آنذاك الحصول على إذن غياب من المصاريف و المراقبة
لبضعة ايام لا تزيد عن أسبوع عمل ..لكن عليك أن تسددها مرة أخرى
للدولة .. هكذا كنت أسافر لبضعة ايام إلى القاهرة وأقيم عند بعض الأصدقاء
.والتقي بصنع لله و كمال القلش فلم يكن عندي أصدقاء في الإسكندرية ..
غالبا كنت التجأ إلى شقة جمال و سميرة داوود بعد أن تزوجت سميرة
زميلها في دراسة الطب جمال صابر جبره وأقاما في طابق من طوابق الفيلا
الصغيرة التي اشترتها والدتها طنطا استر في روكسي بمصر الجديدة ..
إلى هذه الشقة أيضا نقلت نفسي بعد العفو الشامل وانتهاء عمل السخرة
في اسكندرية و المراقبة وأقمت بها حتى استطاع صنع لله بعلاقاته بزوجة
/ أرملة شهدي تدبير شقة لطيفة في الزمالك غرفتان و صالة كانت تعود إلى
سيدة يونانية عاشت فيها مع حبيب لها حتى وافاه الأجل فتركت الشقة و
أجرتها لنا مفروشة بإيجار زهيد تشاركنا في الحياة فيها أنا وصنع لله
وكانت في شارع احمد حشمت بالزمالك(!)
كنا نتناقش ثلاثتنا صنع لله و كمال وانا حول تنفيذ مشروعنا الأول
المشترك ..
وتركت مع كمال لصنع لله الحق في " القيادة " لأنه كان أكثرنا تحمسا
و أكثرنا انتظاما و ترتيبا .. واستطاع الاتصال بمراسل البرافدا في مصر "
يفجيني بريماكوف " ( الذي أصبح وزيرا للخارجية الروسية بعد تفكك
الاتحاد السوفيتي ) وحصل منه على وعد بترجمة ما سوف نكتبه إلى اللغة
الروسية و نشره في البرافدا بأجر معقول ( لا أتذكره ألان ) بل حصل منه
على عربون لهذا الأجر ( أيضا لا أتذكر مقداره ) ..
وهكذا كنا في انتظار الساعة الخامسة و العشرين – كما يقال – أي ساعة
العفو الشامل حتى نستطيع السفر إلى أسوان .. كانت أسوان مبتغانا و هدفنا
التي فيها و خلالها سوف تتأكد حريتنا وقدرتنا على العمل المشترك لأول مرة
في حياتنا نحن الثلاثة !
******
تجربة أسوان و السد العالي
لم يكن لأيا منا خبرة ما في العمل المشترك في كتاب واحد مشترك .. بلى
كانت لنا خبرة – عبر سنوات من الزنازين – في الحياة المشتركة في أية
بقعة و لو صغيرة !
بل لم تكن لأيا منا تجربة السفر في قطار النوم ما بين القاهرة و أسوان كنا من
ركاب الدرجة الثالثة دوما و خاصة أنا حينما كنت اذهب إلى أسوان في إجازة
نصف السنة لكي اهرب من القاهرة و من شقتنا الكئيبة و نكد آمي فاركب
الدرجة الثالثة مسلحا بعلبة سجائر و بعض السندوتشات من الفول و الطعمية و
نقود قليلة
لذا كانت تجربة قطار النوم تجربة هامة فلم نكن ق تعودنا أن يخمنا " فراّش "
العربة الذي جهز لنا مناماتنا كل غرفة بها سريران صغيران فوق بعضهما
البعض وعندك كمان حذ عنك صنبور مياه و لمبات كهربية صغيرة فوق كل
سرير . الخ
كان صنع لله يضع نقودنا القليلة في جيبه و اتفقنا أن نعيش مؤقتا في بيت من
بيوت الشباب بقروش قليلة .. لكنا أيضا اكتشفنا بعد المسافة بين المدينة و بين
موقع العمل في السد وكنا نحاول الاقتصاد في المصاريف فنفطر فول أو
طعمية و نتغدى بالعدس مثلا و نتعشى مثل الفطار حتى هداني الرب إلى
الذهاب إلى مكتب خالي شاكر ( صليب) في إدارة شؤون السد حيث كان
يعمل مراقبا للحسابات و كان يقيم في فيلا من فيلات الري و عنده طباخ كمان
يطبخ له يوميا !
لكن خالي شعر بانتا عبء عليه فحولنا يومها إلى المهندس إبراهيم زكي
قناوي و هو كان الإداري المقيم في موقع العمل و رقم اتنين تحت وزير السد
صدقي سليمان..
ولأسباب غامضة احتفى قناوي بنا وعرفنا منه انه ساهم في تعلية خزان
أسوان وانه خبير بالخزانات و غيرها من مسائل المياه .
اقتنع الرجل بنا وخاطب الكفراوي( الذي أصبح فيما بع وزيرا للإسكان )
وهو المهندس المسؤول في المقاولين العرب و الذي أصبح فيما بعد وزيرا
للإسكان .. خاطبه أن يجهز لنا مكانا للمبيت وطعاما يوميا ثلاث مرات
وبالفعل قد كان وهكذا خرجنا من مكتب قناوي إلى غرفة كبيرة في استراحة
المقاولين العرب بها جهاز تكييف و بالقرب منها صالة للطعام ..الخ .
هكذا استطعنا لأول مرة استيعاب وجودنا في أسوان و فهمنا المشترك لعمل و
كتابة كتابا ( ما ) عن السد العالي الذي كان يشكل شيئا مهولا في وجداننا
مضافا إليه عدم وجود " خبرة " سابقة في العمل المشترك أو في كتابة شيئا ما
"كبيرا " مشتركا ..
لكن لعل جهلنا بكل المستلزمات المتعلقة بكتابة من هذا النوع انقدنا من
الإحباط و الفشل إنها "قوة الجهل " كما كان المهندس احمد هشام يطلق على
هذا النوع من الجهل (!)
في السد كما في السجن تكفل اخرون بإطعامنا و بوضع سقفا فوق رؤسنا
وحالما انتهينا من العمل و الكتابة في السد ورجعنا مرة أخرى إلى القاهرة كل
منا إلى موقعه السابق .. أنا إلى بيت الأسرة في كليوباطرا بالإسكندرية و
كمال إلى فيلا الأسرة بروكسي و صنع لله إلى غرفته في مصر الجديدة
نحاول أن نصيغ مذكراتنا التي كتبناها خلال الشهور السابقة في أسوان
وإحساس بالعجز ينتابني ( وكمال أيضا ) عن كيفية هذه الصياغة وكيف
سيتم تضفيرها في كتاب واحد .. أورثني هذا الإحساس بالعجز إلى إحباط و
عدم الرغبة حتى في الاقتراب من تلك المذكرات ( حيث كانت واحدة من
مهامي هي الكتابة عن النيل و إدراكي بعد ذلك بجهلي الكامل عن هذه النهر
العظيم الإلهي رغم قرائتي بالانجليزية متعثرة لكتاب لودفيح العظيم عن
النهر )
ليحل صنع لله معضلة اتساق الكتابة لثلاثة شخصيات بان يقوم هو بالتحرير
المطلوب .. علينا فقط أنا و كمال لان نقدم له المادة الخام .
وبالفعل قام صنع لله بالتحرير وأعاد صياغة م 1ذكراتنا و أصبحت في
كتاب اتفقنا على اقتراح بتسميته " إنسان السد العالي "
وعرفنا من صنع لله تعنت محمود امين العالم الذي وضعته الدولة أو
التنظيم الطليعي على راس إصدارات كتب الدولة وكيف انه وافق في النهاية
متضررا على نشر الكتاب !
أخذت نسختين من الكتاب لأقدمهما إلى أهلي واحة إلى آمي و أخي و أختي
وواحدة إلى أخوالي كان هدفي من هذا أن اثبت لهم جميعا بأني شخص مفيد
و أني استطيع – متى كانت هناك ظروف مواتية – أن أصبح أيضا مهما ز
كبيرا و كاتبا .
لكن كل هذا ذهب أدراج الرياح فلم يهتموا بالكتاب بل تركته آمي فوق
الراديو في الردهة غير مفتوح الصفحات المغلقة كما كانت أحوال الكتب
آنذاك في مصر..
وانزويت أنا مرة أخرى في مكاني اكره أمي و أهلي .
حينما أتأمل ألان وأنا اكتب ( عمري خمسة و ثمانين ) اندهش لقدر المقاومة
اللا إرادية التي كنت أحارب بها هذا الخذلان من اقرب الناس لي و كيف أني
لم أصبح شخصا مجرما أو محبطا أو يائسا أو سوداويا ..كيف قاومت بوعي و
بدون وعي هذه الأحاسيس لأواصل يومي كإنسان " زائد عن الحاجة "
كإحساسي الدائم منذ خروجي من السجن .فقبل السجن لم ينتابني هكذا إحساس
..كنت فردا في آسرة تبدو للآخرين متماسكة في مواجهة مرض الأب ورقاده
المتواصل على سرير المرض .. نخرج يوميا لمواجهة الحياة .ز نتعلم ونعمل
في ذات الوقت حتى نستطيع التكفل بالحد الأدنى من ميزانية فقيرة الذي يتطلبه
بيت مثل بيتنا من خمسة أولاد وأب مريض و ام تعتني بنا جميعا من طعام و
غسيل ثياب باليد وطعام بسيط يتكون بالأساس من خضار بدون "أدام " وفول
و عدس ونشتري بقية الاحتياجات من بقال قبطي دكانه قريب من البيت مثل
غيرنا من السكان نشتري احتياجاتنا علة " النوتة " ندفع ما علينا آخر الشهر !