صنع لله ابراهيم
يكتب صنع لله مثلما يعيش ويتحرك ؛ أي بحساب عقلي دقيق دون أن يلقى بالا إلى
العواطف إلا فيما ندر . فهو مخطط سلفا لحركته الإبداعية ولحركته اليومية . يعرف
مسبقا ماذا سيحدث لشخوصه فهو قد خلقهم اواعاد تخليقهم من واقع لا يدريه سواه .
صنفهم مقدما ووضعهم في القوالب التي ارادها لهم ولن يستطيعوا منها فكاكا .. فهو
أيضا ممسوس بالكنترول على كافة المستويات. كما انه ممسوس بالدقة والتدقيق إلي
يطلب الكمال.
وكما يصنّف شخوصه فهو أيضا يصنّف الشخصيات التي تعبر بها أو يعبر بها .
تمازحت يوما مع صديقة مشتركة وقلت لها من ضمن ما قلت أن صنع لله
مشغوف بعمل "كروت " للأحداث والناس .. وقمت كعادتي بعمل امبروفازيشن
فأضفت انه يضع هذه الكروت في صناديق الأحذية الكرتونية .
لأكتشف بعد سنوات في حديث عابر معه انه بالفعل يضع الكروت في صناديق ( ما )
وحينما اقتنى كمبيوتر ..وضع كروته فيه.
انه أيضا ممسوس " بالأمن " امنه الخاص . فحينما اقمنا مع بعض في شقة الزمالك
كان يغلق ادراج مكتبه بالمفاتيح تحوطا. وستجد شخصيته واضحة في " اللجنة " كما
انه اعترف لي بأنه استعار شخصيتي ليضعها في شخصية المصري القبطي الذي خان
الراوية وسلمه للكتائب . اندهشت لأنه حينما جاء إلى بيروت ايامها وهو ما يزال
يجمع مادة " بيروت .." استضافه طلال سليمان صاحب جريدة السفير لمعرفة ومودة
سابقة. كنت اعمل أيضا في السفير . اقام صنع لله في فندق قريب من الجريدة . لكن
تلك الأيام كان الفلتان ألأمني في بيروت على اشده. كنت التقي صنع لله يوميا . وكانت
السفير بدأت في نشر اللجنة مسلسلة . ثم اشتعلت بيوت لمدة ثلاثة ايام باشتباكات
بين تنظيمات محلية . ثمة فترات هدوء متقطعة نذهب فيها إلى اعمالنا . اشتكى لي
صنع لله من وحدته وعزلته في الفندق فاقترحت أن استضيفه بعد استئذان طلال .
رحب طلال وانتقل صنع لله إلى شقتي الصغيرة في نزلة كاركاس القريبة من البحر .
قضينا اوقاتا طيبة ؛ نحتسي الشراب وندخن سجائر ملفوفة ونتحادث كثيرا فقد مرت
سنوات على آخر لقاء لنا في موسكو حينما كنت ادرس في بولندا وهو في موسكو .
وحينما عدت أنا إلى مصر عام 1982 كانت " بيروت .." قد صدرت واتصل بي نمام
مثقف وروائي وقال لي أن صنع لله كتب عنك باعتبارك سلمتّ البطل للكتائب كما في
النص. ضحكت واندهشت وحينما واجهته قال " يمكن ..مش فاكر .. وبعدين انت
عارف من اين يأتي الكتاّب بشخوصهم "
لم انزعج ..لكني حينما عملت مسرحة لرواية اللجنة ..رسمت شخصية البطل كما
صنع لله مستخدما " لازمة " له في الحديث . بالطبع هو اكتشفها ولم يعلق..وعدينا
الموضوع !
حينما أتأمل اعماله الأدبية وأعمالي .. اعرف أن قامتينا متساويتان أو تكاد (!) فهو
انجز جزءا كبيرا من مشروعه ..وكذا أنا قد فعلت ..وان كنت لا أحب اصطلاح
مشروع هذا لأنه يفكرني بالبقالين (!) لكننا رياديان في اعمالنا ..هو بتقنيته المعروفة
ومواضيعه وأنا بكتاباتي عن المسيحيين وعن الإيروتيكية الإبداعية 1 الاختلاف
الاساسي بيننا هو انه " قابض الكتابة والحياة جد " حسب ما يقول اهل لبنان ..بينما أنا
اتعامل مع الكتابة مثلما اتعامل مع الحياة ، ليس باستخفاف ..على العكس ..ولكن ليس
"جد " أيضا ..اعتبر الكتابة مغامرة يومية مثل الحياة التي اترقب منها دائما كل ما هو
مثير ولذيذ!
لو عاش عبد الحكيم قاسم ما عشناه .. لأنجز الروائع في الأدب العربي .. فله اسلوبه
المتمكن العربي النحوي الرائق الصاف ..ومواضيعه الخاصة التي يعترف منها ولا
يدلي سواه بدلو في نهرها الدفاق .
يعيش يوسف فاخوري في اسوان .. هو كاثوليكي عمل بالتجارة فترة ثم تفرغ لكتابة
الأدب وبالتحديد الرواية بعد أن كان – ولعله لا يزال - يكتب قصة قصيرة مركّزة
وجميلة . ابوخنيجر وفاخوري وغيرهما من الكتاّب المقيمين في اسوان ، يواصلون
الحياة في منفاهم الاختياري .
اسوان بالنسبة لي ملاذا ( قصير الأمد) اقدم إليها بقطار النوم لأقضي بها اسبوعا
في ضيافة فاخوري أو في فندق صغير ، استرجع مذاقها الخاص .لكن محافظها الحالي
( لا أتذكر اسمه لعدم اهميته ) قرر تطوير اسوان فحطم سوقها الداخلي وبناياته
القديمة شبه الأثرية ليقيم مكانه مبان مشوهة سياحية .
اذهب عادة إلى اسوان لأستقل مركبا شراعيا لمدة يومين أو ثلاثة .. يبحر بي بهدوء
على النيل شمالا . وقد بدأت الرحلة النيلية من سنوات طوال مع "عم ربيع " المراكبي
الذي تعرفت عليه بالصدفة الطيبة حينما كنت مع خيرتي الهولندية وجوديث
البريطانية في عام 82 في رحلتي الاسترجاعية لمصر بواسطة اللاند روفر تبعهما.
(قد كتبت عنهما كثيرا في بيضة النعامة )
1أحب أن اصف كتاباتي الايروتيكية بأنها تهدف أيضا إلى اشياء "ما وراء " الأيروتيك على المستوى الإنساني