: مذبحة الضعين..
قبل زيارتي الأخيرة للسودان لم اكن قد سمعت عن " مذبحة الضعين " ولا عن الباحث
السوداني الذي قام بكتابة تقريرا عنها : الدكتور عشاري احمد محمود الذي يعمل حاليا في منظمة
اليونسيف في الخرطوم .
في البداية بحثت عن الكتاب فلم ا جده. ثمة وعود من أصدقاء او أصدقاء لأصدقاء
بإحضار الكتاب لي .. بالطبع لم يحدث شيء .. حتى عودتي إلى القاهرة .
قررت ان أذهب إلى المؤلف شخصيا . حصلت على رقم الهاتف . سكرتيرته اعتذرت - كل
مرة - بأنه غير موجود . قلت لها عن هدفي من لقاءه “ أريد نسخة من الكتاب " لماذا؟- سألتني -
.. لأني ارغب في الكتابة عن السودان . أريد التوثيق " سنتصل بك . اترك رقم الهاتف "
بالطبع لم يتصل أحد . اتصلت ( لثالث مرة ) اعتذرت السكرتيرة نيابة عن الدكتور عشاري قائلة
“ يقول الدكتور انه آسف . شخصيا لم تعد عنده نسخة من الكتاب . "
شددت رحالي إلى مكتب منظمة الاتحاد الأوربي في الخرطوم . التقيت بالشخص
المسئول عن “ إعادة توطين أشخاص المنتزعين من مواطنهم الأصلية" طبقا لتعبير المنظمات
الدولية وهو " السيد ونتر " الذي بعد ساعة من الحديث المؤدب المتحفظ وتبادل السجائر
واحتساء القهوة أعطاني منشورا قصيرا عن نشاط المنظمة في “ إعادة توطين المختطفين من
النساء والأطفال .. " قراءة متأنية للسطر الأخير وجدت المعلومة التالية : “قدمت المجموعة
الأوربية حوالي مليون دولار أمريكي الى الحكومة السودانية دعما منها في المساهمة في إعادة
جمع شمل المختطفين وعلما ان عمليات الاختطاف جاءت نتيجة للحرب الدائرة الآن في
الجنوب .. " الخ
هكذا غادرت السودان دون حصولي على الكتاب . أوصيت اكثر من شخص بإرساله لي
على عنواني بالقاهرة في حالة الحصول عليه. بقيت في القاهرة ثلاثة أسابيع .في الليلة الأخيرة قبل
سفري إلى أمستردام ، اتصل بي شخص اعرفه من الخرطوم ( لست في حل من ذكر اسمه ) وقال
لي انه يحمل رسالة لي من السودان من ( منال... ) تقابلنا في مقهى الحرية في باب اللوق في
اليوم ذاته . المفاجأة كانت إرسال الكتاب ومعه كتاب آخر عن " حضارة كرمة " وكذلك صور
فوتوغرافية ملونة عن " الحقبة المسيحية في السودان "
كانت تلك نسختها الخاصة من " مذبحة الضعين " !
بعض المصادر جمعتها من السودان .البعض الآخر من مصر من " مركز الدراسات السودانية "
الذي أسسه ويديره الدكتور حيدر إبراهيم ووثائق ومن مركز حقوق الإنسان السوداني في
القاهرة وكذلك العديد من قصاصات الصحف السودانية .
عرب جهينة .. مرة أخرى
في الدراسة المعنونة “ القبائل السودانية والتمازج القومي “ صديق البادي - سبتمبر 1995 " نجد
أن
-1 “ قبيلة الرزيقات : هم من عرب جهينة وجدهم الذي ينتسبون إليه هو رزيق .
* مدينة الضعين هي حاضرة الرزيقات في الجزء الشرقي لولاية جنوب دار فور وهي عاصمة
محافظة الضعين .
بالمدينة أحد عشر حيا : أهمها حي العرب ؛ (أطلق عيهم هذا الاسم لأنهم يحضرون معهم أبقارهم
داخل المدينة وحافظوا على طبيعتهم البدوية ) وبالرغم من قبيلة الرزيقات تشكل أغلبية في
المحافظة لكن توجد قبائل أخرى وبعض البطون التي انصهرت منذ أمد بعيد وسط الرزيقات . نسبة
المستقرين من الرزيقات كبيرة .. رغم ذلك فهناك عرب رحل متجولون حتى من بين الذين لهم
منازل ثابتة.
*بالضعين اكبر سوق لتسويق الماشية في السودان . بها مؤسسة لتسويق الماشية وزريبة للتصدير.
-2 قبيلة دينكا نقوك
*“ نزح الدينكا من منطقة " ابيي " في أعالي النيل في جنوبي غرب السودان ؛ إلى الريف
الممتد حولها . يعملون بالزراعة والرعي في منطقة قبائل المسيرية وتصاهروا معهم . من
شخصياتهم الشهيرة " فرانسيس دينق الذي اهتم بتوثيق عادات وتقاليد الدينكا وكتب عدة روايات
أثارت ردود أفعال متباينة مثل رواية “ طائر الشؤم “
في تقرير " مذبحة الضعين " يحدد عشاري وزميل الكتابة سليمان علي بلدو :
" الدينكا في الضعين . .. بدأ نزوح الدينكا بطريقة منظمة إلى مدينة الضعين عام 1964
أثناء الحر ب الأهلية الأولى حيث جاءوا بأعداد كبيرة مع بعض شيوخهم مثل السلطان عبد الباقي .
بعد اتفاقية أديس أبابا التي توقفت بموجبها الحرب الأهلية عام 1973 رجع البعض منهم إلى
موطنهم الأصلي والبعض الآخر بقي في الضعين ."
“ بعد اندلاع الحرب الأهلية مرة أخرى عام 1983 وامتداد نشاط القوات الحكومية إلى
منطقة بحر الغزال وغارات مراحيل المسيرية وميليشيات الرزيقات المدعومة من الحكومة على
المواطنين الدينكا ؛ أضطر بعض الدينكا إلى الانضمام إلى الجيش الشعبي ( وهو أحد أشكال
المليشيات الحكومية المقاتلة ضد جيش التحرير الشعبي في الجنوب .)
"أحدث إحصاء للدينكا في الضعين بلغ حوالي 17 ألفا من الرجال والنساء دون الأطفال
قامت به منظمة حكومية اسمها “ المؤتلفة قلوبهم “ بهدف إحصاء الدينكا في الضعين غير المنضمين
لقوات جيش التحرير الشعبي بهدف مساعدتهم .
"الأعمال التي كان الدينكا يقوم بها في الضعين هي استخدامهم عمالا زراعيين لدى عرب
الرزيقات وعمال في قماين الطوب وقشارات الفول وخدم في المنازل وإحضار مواد البناء وبناء
المنازل واستخراج حب البطيخ وحفر المراحيض .لم يكن يعمل من الدينكا في جهاز الدولة في
الضعين غير أشخاص قليلين ؛منهم عسكري شرطة وعامل بهيئة توفير المياه وسائق بمجلس
المدينة وعامل في السكة الحديد .
"يُوجد بالمدينة كنيسة تحتل موقعا هاما في المذبحة حيث كانت أول موقع تعرض للهجوم
بالرغم من أنها كانت تسعى للوفاق بين الدينكا المسيحيين وعرب الرزيقات المسلمين الذين كانوا
يأتون لحضور فصول تقوية اللغة الإنجليزية بها .كذلك كانت تسمح لشباب الرزيقات باستخدام
أثاثها في اجتماعاتهم الدورية في فناء الكنيسة.
"قبل المذبحة بأربعة اشهر طالب أربعمائة مواطن مسلم في عريضة موقعة مرفوعة
للقاضي بإزالة الكنيسة بحجة أنها تقوم بالتجسس لصالح الجيش الشعبي لتحرير السودان بعد ان
ركبت الكنيسة جهازا لتوليد الطاقة الشمسية مما أثار أيضا ريبة ظابط الشرطة المحلي ."
1987 حينما هاجمت - 3 - يقول التقرير " بدأت المذبحة مساء يوم الجمعة 27
مجموعة من عرب الرزيقات كنيسة الضعين ؛ فضربوا أفراد الدينكا الذين كانوا يلعبون الكرة في
فنائها وقذفوهم بالحجارة .
*تم حرق بعض منازل الدينكا وقتل خمسة أشخاص
* التجأ الدينكا إلى مركز البوليس في عشية اليوم نفسه بعد انتشار العنف . وهرب البعض
خارج المدينة
* قامت الشرطة بتجميع الدينكا الهاربين اللاجئين في حي السكة حديد وقضوا ليلتهم تحت
حراسة الشرطة .ثم تم ترحيلهم في صباح اليوم التالي إلى داخل محطة السكة حديد تمهيدا لترحيلهم
خارج المدينة ( إلى نيالا )
* يوم السبت هاجمت مجموعات من الرزيقات محطة السكة حديد واعتدوا على الدينكا
ببعض الأسلحة
* مساء السبت تجاوز عدد القتلى من الدينكا ألف شخص . بعدها تحرك قطار يحمل بعض
الناجيين . وفي صباح اليوم التالي جاءت قوة من الجيش من مدينة بابنوسة وتحركت مع القطار
الثاني الذي حمل بقية الناجين .
*"يقول شهود العيان ان قتل الدينكا كان نتيجة حرقهم بإشعال عربات السكة الحديد التي
احتموا بها . من حاول الخروج من العربات يتم قتله بالسلاح الناري او بالسيوف والفؤوس .كان
بعض الرزيقات - طبقا لشهود العيان - يطاردون الدينكا الهاربين وهم على ظهور الخيل بينما
تزغرد نساء الرزيقات يحرضن الرجال "
* واصل الرزيقات النهب واختطاف الأطفال والنساء والفتيات. هنا نتوقف لنلاحظ "
تواصل " ظاهرة الاقتتال القبلي القديم وما يعقبها من نهب وسبي للنساء والأطفال . فهذه العادة ما
تزال مستحكمة في بعض القبائل السودانية منذ أمد بعيد ".
*ان سبي النساء والأطفال وبالتالي استغلالهن جنسيا او - و - في الخدمة في الحقول وفي
المنازل بدو ن أجر بالطبع يندرج بالتأكيد في " مفهوم الرق " التقليدي : الاقتناص .. او سبي
الجماعات المدحورة في الغزوات ."
من هنا أيضا جاء تملص " الخرطوم " من اتهامها بممارسة الرق في حربها ضد جيش التحرير
الشعبي .فالحقيقة ان الجهات التي تقوم بالغزوات والسبي بعدها هي جماعات مسلحة شبه رسمية
.. ميليشيات قبلية تدعمها الدولة بالمال السلاح وتحركها عدواتها التقليدية القديمة .
ففي القدم قامت القبائل العربية الوافدة إلى السودان بالعمل في اقتناص الرقيق وتجارته .
تقليديا اعتبرت القبائل العربية ان " الجنوبيين " صيدا حلا لا. وحينما تقرر تحريم الرق .
اضطرت هذه القبائل إلى العودة إلى مهنتها الأصلية وهي الرعي وبعض الزراعة . فوجدت منافسة
من سكان الإقليم الذين يعملون تاريخيا كما ذكرنا بالرعي بل ويعتبرون " البقر " ثروة مقدسة .
دخلت المنافسات حول المراعى في الأطر العدائية للقبائل المتنازعة . ثم جاءت الحر ب الأهلية
واستغلت الخرطوم الموقف وقامت بتسليح القبائل .
يورد تقرير المذبحة موقف الحكومة أيامها منها. كان الصادق المهدي هو رئيس الوزراء .
*" فسر رئيس الوزراء الصادق المهدي مذبحة الضعين بأنها نتيجة لدواعي الانتقام على
هجوم قوات جيش التحرير على منطقة " سفاهة " الواقعة على بحر العرب جاء ذلك في رده على
" سؤال لإذاعة لندن في 31 مايو 1987
يحلل كاتبا التقرير أسباب المذبحة :
*" أولا -سياسة الحكومة تجاه قبائل المسيرية والرزيقات والدينكا في هذه المنطقة في إطار
استراتيجية مجابهة الجيش الشعبي لتحرير السودان ."
*ثانيا - بروز النهب المسلح من مجتمع الرزيقات ضد مجتمع الدينكا كوسيلة للإثراء
الطفيلي وفي تناغم مع سياسة الحكومة"
*ثالثا –" بروز الرق في مجتمع الرزيقات كمؤسسة تتوافر ظروف رواجها في سياق
سياسة الحكومة في المنطقة "
* استطاع نواب حزبي الحكومة في الجمعية التأسيسية ( البرلمان ) إسقاط اقتراح قدمته المعارضة
." للتحقيق في مذبحة الضعين أسدل الستار نهائيا في 30 يونيو عام 1987
لماذا الرزيقات ؟
لأن الصراع على المراعي المتداخلة الحدود القبلية بين الدينكا والرزيقات صراع قديم
للغاية .. ولأن الرزيقات منذ عصر اقتناص الرق عملوا بشكل أساسي كقناصين للجلابة العرب
والأجانب وكان “ صيدهم " يتركز في الدينكا .. بطبيعة الحال !
بالرغم من ان صلحا قد تم عقده بين الرزيقات والدينكا في مدينة " بابا نوسة " عام 1976 وبالتالي
تم التداخل السلمي بين القبيلتين اجتماعيا ومن خلال التزاوج . إلا ان الحكومة - طبقا للتقرير- قامت
ببعث الخلافات القديمة عن طريق تكوين مليشيات مسلحة من قبائل المسيرية والرزيقات في دورة
حربها ضد جيش التحرير الشعبي .
يؤكد التقرير - مرة أخرى - مسؤولية الحكومة عن ظاهرة الرق في مجتمع الرزيقات وذلك
"باختطاف النساء والأطفال والفتيات من قرى الدينكا وتحويلهم إلى أرقاء واستخدامهم في الاقتصاد
الرز يقي وبيعهم أحيانا . هذه كلها حقائق واقعة .والحكومة على علم بذلك . القائمون بهذه
الممارسات من مجتمع الرزيقات هم من حلفاء الحكومة المنتظمين في المليشيات والقائمين على
أمرها "
يؤكد الباحثان ان "نتائج المذبحة " كانت كالعادة هي بيع أطفال وفتيات ونساء الدينكا
كرقيق. "بعضهم مملوكين لعدد من عرب الرزيقات في قرى ومدن محددة بالاسم وعندنا روايات
مدعومة بالأسماء وبالتفاصيل . وان العديد من الشكاوى التي قدمها الدينكا قد تم تجاهلها من
الشرطة والجهات المعنية "
لماذا الاهتمام بتوثيق - وإعادة نشر - هذه المذبحة ؟!
السبب ببساطة انها الرمز الواضح الدلالة للفرز العرقي والتباين " القومي " في السودان .
انها المفتاح لفهم التعقيدات الحالية الموروثة من قرون من القهر العرقي والتمايز الديني .
بدون الاعتراف بوجود هذا التمايز ، وبالتمعن في جذوره ، سيكون السلاح هو الحل
الأسهل للأطراف جميعها .
هكذا .. ! سيتبين القارئ " براءة " الحكومة في الخرطوم من انغماسها في موضوع الرق
و" توكيل " قبائل جهينة "بالاهتمام " به نيابة عنها . " عرب الزريقات " ما زالوا أوفياء
لتقاليد أسلافهم التي أشار إليها ابن خلد ون الذي لم ينتم لا إلى المعارضة او إلى منظمات
حقوق الإنسان " الاستعمارية " .. لعلهم من خلال تمسكهم بالتراث - إياه - يتمسكون أيضا
باتفاقية البقط !
ملحوظة " أن قوات ما يسمى بالتدخل السريع هي أصلا من الرزيقات والتي اسماها آهل جبل مرة
في غرب السودان " الحن جا ويد ( أي الجن على ظهور الجياد ) وهي التي تمردت ألان على
الجيش النظامي و على الجنرال البرهان بقيادة المرتزق حميديتي المطلوب للمحاكمة دوليا في
لاهاي بجرائم حرب