آن .. البولندية في سويسرا
سويسرا عام 1973
ذهبت إلى سويسرا لأرتزق ببعض النقود حينما كنت ادرس في بولندا وأتسلم أول كل شهر
منحة ضئيلة ( من وجهة نظري ) لا تكفي مصاريفي ، فأنا كنت اعتبر نفسي - في النهاية -
راشدا تجاوزت الثلاثين من عمري أريد ان اشعر بأن ثمة نقودا في جيبي المخروم .
هكذا دبرت صاحبتي ميشا( ماريا ) مأوى لي في جنيف عند صديقة لها بولندية مهندسة
وزوجها المعماري السويسري وهناك عليّ ان أدبر راسي,
( كنت قد حزمت متاعي التافه وذهبت إلى بولندا عام 1970 بحجة دراسة اللغة لكي أصبح مترجما
من البولندية إلى العربية .كنت اريد إن اترك مصر بأية حجة ولما جاءت المنحة قبلتها وقلت لنفسي
خلينا بس نوصل ونشوف البلد وبعدين يحلها لله ) وبالفعل بعد إن سقطت السنة الأولى في
امتحانات معهد اللغة استطعت تغيير مجرى المنح من دراسة اللغة إلى دراسة المسرح وقيل لي
"لن نعطيك شهادة فقلت لهم مش محتاج لشهادة وبالفعل درست المسرح 3 سنوات ومنها مرحلة
تدريبية في أهم مسرح أوربي أيامها وهو مسرح جروتوفسكي ( مسرح المختبر )
ساعدتني صديقة ميشا في ان أجد عملا في مؤسسة للتنظيف يمتلكها مليونير بولندي مهاجر كما
قدمت لي غرفة في شقتها الفاخرة في الحي الأنيق . دعتني في الويك إ ند لأقضي السهرة معها
وزوجها ومجموعة من أصدقائهما البولنديين المتواجدين في جنيف .. اذكر منهم أستاذا في
الجامعة متعجرف كان يعاملني بدهشة ( لني أتحدث البولندية والإنجليزية وبعض الفرنسية )
واستعلاء باعتباري انتمي للجنس العربي .. خفف من غلواءه صبية بولندية اسمها آن " لعلها
كانت في الثلاثين " بصوتها بحة محببة مثيرة متناسبة مع جسدها الذي يمور بالصحة والتوتر .
في الويك إند الذي يليه دعتني صديقة ميشا ان أرافقهما هي وزوجها في السيارة إلى منطقة
خارج جنيف حيث سيقضيان يومهما في قارب شراعي يمتلكانه لكني رفضت بأدب وتطوعت
آن التي كانت تحضر النقاش إن "تاخد بالها مني " أي سترعاني حتى يرجعان في الغروب
وحينئذ ستناول عشائنا في مطعم على الحدود الفرنسية لنأكل "الضفادع " الشهيرة ( وجدتها
لذيذة !)
هكذا وجدت نفسي مرة أخرى مع آن - لوحدنا تماما - في بيت ريفي واسع ذات صباح
ربيعي مدهش .. يبدو انه كان بيتا لأصدقاء لها .استقبلتني آن بتحفظ مؤدب وعرضت ان
نستلقي في حديقة البيت على الحشائش الخضراء وننعم بالشمس الحانية المنهمرة برفق علينا
من السماء السويسرية المحايدة .
ما حدث بعد ذلك سجلته في حكاية " القديسة آن " .. ما لم أسجله لأنه كلن خارج الحكاية
هو إنها دعتني مرة أخرى ان اقضي الليل معها في شقتها بعد ان تعشينا ثم ذهبنا إلى
السينما حيث قضت آن وماريا بعض الوقت في الهمس المستتر . وصفت لي آن شقتها
ونحن في السيارة في طريق عودتنا جميعا لجنيف . وهكذا بعد ان رجعت مع ماريا
وزوجها وتحممت وغيرت ثيابي قلت لماريا اني سأتمشى ( فطبقا لعادتي آنذاك في
المراوغة لم اقل لها ما كنت أزمع القيام به لأنها في النهاية صديقة لميشا ) لكني كعادتي
حتى الآن التي تلازمني فقدت اتجاهاتي وضعت تماما أخيرا استجمعت شجاعتي وتلفنت
ماريا من الشارع وقلت لها عن مشكلتي وطلبت منها ان تعطيني رقم هاتف آن .. استمعت
هي لي مندهشة ضاحكة لكنها أعطتني الرقم . تلفنت لآن اشرح لها موقفي ( كان ذلك بعد
أكثر من ساعتين من الموعد المتفق عليه ).. تلقت هي تفسيراتي ببرود غير المصدق وقالت
أنها ذاهبة لتنام الآن لأنها متعبة .
حينما التقيتها بعد ذلك اكثر من أسبوع تجاهلتني كنها لم تقدم لي جسدها في ذلك اليوم
الربيعي السويسري الجميل!
هذا درس تعلمته في رحلة الحياة وخاصة فيما يتعلق باحترام مواعيد نسائية . الحاجات دي لا يوجد
بها سماح أو قبول اعتذارات مهما كانت حقيقية !
كارل ماركس الأسود
- اسمرة - بيروت أديس أ
1980
حينما تزايدت أعداد المصريين الهاربين من تعسف السادات ظهر تنظيم "تجمع المصريين
في الخارج " وانضممت إليه باعتباري "معارضا " لكامب ديفيد ولسياسات السادات بشكل
عام.
كنت قبل ذلك أعدت انضمامي ل" الحزب الشيوعي المصري- تنظيم الخارج " بعد
استقراري في العراق وعندما فاتحني كمال القلش بشأن عضويتي " الجديدة " بعد ان حل
الحزب نفسه قبيل الإفراج النهائي عن المعتقلين والمسجونين الشيوعيين عام 1964
لهذا كان من الطبيعي ان انتظم في " تجمع المصريين في الخارج " أيضا ..
كان كمال الذي يحافظ دائما على اتصالاته مع الرفاق قام بالانضمام مرة أخرى للحزب بعد إن
أعلن الحزب حل نفسه حينما كانت هناك مساومة لخروجنا من المعتقل في بدايات 64
كان المخرج المصري فؤاد التهامي قد سبقني إلى العراق ويعمل في مؤسسة السينما
والمسرح ( كذا توفيق صالح ) التي عملت أنا فيها أيضا .
التهامي كان من مؤسسي " التجمع في الخارج " ونتيجة لعملنا في المؤسسة كنا نلتقي
يوميا ونتحادث في السياسة التي كانت تشغل التهامي أكثر من اهتمامه بالفن .
أيامها كان في العراق وعلى فترات مختلفة كل من عبد الرحمن الخميسي واحمد عباس
صالح وكرم مطاوع ومحمود السعدني وكان يتردد عليه بشكل شبه منتظم جمال الغيطاني
الذي أقام علاقات وثيقة مع " الحكم " واصدر كتابه " البوابة الشرقية " التي يشيد فيها
بدرر حزب البعث والجيش العراقي أبان حرب السبعة والستين . كان هناك أيضا أمير اسكندر
الذي كتب " هكذا تكلم صدام حسين " وهو كتاب عن صعود صادك حسين إلى السلطة من
عضو بعثي بسيط وغير متعلم . طبعا أمير قام بفلترة "جرائم قتل " صدام حسين لمعارضيه حتى
من الحلقة الضيقة المحيطة به.
أصدره الحكم العراقي بعدة لغات وكان " يُوزع " في كل مكان في العالم .
*جاء أيضا مجموعة من الطلبة المصريين لأسباب مختلفة للدراسة في جامعات ومعهد
العراق الذي فتح أبوابه للمصريين كما ظهرت شركة مقاولات مصرية للقيام بأعمال
الكهرباء في شمال العراق أسسها الشيوعي السابق " سيف النصر " ومنها تعرفت على
المهندس احمد هشام والمهندس احمد نبيل وغيره وتوثقت العلاقات مع معظمهم حتى الآن
.
كنت سعيدا بعملي وتواجدي في بغداد .. تعرفت آنذاك على " يمامة ( هذا ليس اسمها
الحقيقي) " و التي كتبت فصلا في بيضة النعامة عنها " هل يمكن السير في مظاهرة بدون
ملاحظة أرداف من أمامك من الفتيات "
(بعد ذلك بسنوات أتنقدني فخري كريم حينما تحول من قائد ومنظّر سياسي إلى ناشر في دار
المدى .. بأنه لا يجوز لي ان اكتب عن يمامة بهذا الشكل( هو كان يعرفها بعد إن قمت
بتعريفه بها حينما جاءت هي إلى بيروت من بغداد لتلتحق بي بعد إن تزوجنا ) .. لم يعجبني
تصديه لما لا يفقه فيه " أي الأ دب والنقد الأدبي " وكنا في معرض القاهرة للكتاب وكان
يقف بجواري الناقد فاروق عبد القادر وكان مع فخري الشاعر سعدي يوسف . ثارت بيننا
مجادلة سخيفة اتهمت فيها فخري بأني عندي تقريرا من الأقمار الصناعية الأمريكية يؤكد
صغر حجم قضيبه ! اسقط في يد فخري وتركني يائسا من " منطقي في النقاش " وصارت
حكاية تقرير الأ قمار الصناعية بعد ذلك على لسان العراقيين الذين لا يحبونه وما أكثرهم
( !
في أيام العراق تلك وأيام الجبهة كان فخري كريم رئيس تحرير ( أو مدير تحرير) صحيفة
" طريق الشعب " التي يصدرها الحزب الشيوعي العراقي . وحينما حدث النزوح الجماعي
للشيوعيين العراقيين والديمقراطيين نزح فخري إلى بيروت وأسس "قاعدة تنظيمية وحزبية "
للشيوعيين العراقيين باعتباره عضوا في اللجنة المركزي ( أو المكتب السياسي ؟ ) وداومت على
الاتصال به بل وساعدته أنا ويمامة في " تهريب " بعض عناصر الحزب بان حملنا
جوازات سفر مزورة لبغداد مرتين .
وقبلها حينما كنت ما أزال اعمل في بغداد رافقت الشاعر صادق الصايغ في رحلة هروبه من
بغداد حتى حدود سوريا وقفلت راجعا في اليوم ذاته لأ بلغ شقيقته بنجاح هروب صادق .
وحينما تحطمت الجبهة بين البعثيين والشيوعيين قطعت عقدي في مؤسسة السينما
والمسرح وذهبت إلى بيروت برفقة التهامي ( الذي احترف نهائيا العمل السياسي ) وعملت
بتشجيع ومساعدة من مصطفى الحسيني في جريدة " السفير " *
< أقمنا أنا والتهامي في شقة صغيرة مفروشة في عمارة " الجمال " على الروشة .
* ذات يوم فاتحني التهامي في ان اذهب إلى عدن لبعض الوقت ومنها لإثيوبيا حيث قام
الحزب الشيوعي المصري بتأسيس محطة بث إذاعي صغيرة من عدن ويريد ان " يؤطرها "
جيدا وان يبث فيها بعض البرامج التحريضية . أضاف ان نظام " الرفيق" ” منجستو هيلا
ماريام الماركسي قد وافق أيضا على تأسيس محطة إذاعية في أديس أبابا يديرها الحزب
الشيوعي المصري ( أي انا وشخص أخر) .. وانه بالتالي مطلوب مني الذهاب بعد عدن إلى
هناك لأبث الروح في المحطة الجديدة . تحججت - صادقا - بأنه ليست لي خبرة إذاعية .
اغراني بحبي للسفر وبأني من الممكن ان اتفق مع " جريدة السفير " التي كنت ما أزال
اعمل بها .
وافق طلال سلمان رئيس التحرير على اقتراحي بأن اذهب في رحلة صحافية ( غير مدفوعة
الأجر ) إلى اليمن وإثيوبيا .
وكانت زوجتي ( يمامة ) أيامها في كلية الطب ببغداد في الصف الثاني .. ونتيجة لوعود من
الجبهة الديمقراطية ( التي كانت لها علاقات وثيقة بمنجستو ونظامه ) ووعود من فخري
كريم ( الحزب الشيوعي العراقي ) 1 بخلق فرصة ليمامة لإكمال دراستها إما في الجامعة
الأمريكية في بيروت أو كلية الطب أديس أبابا .. نتيجة لهذه الوعود وافقت انا على السفر
على ان ترافقني يمامة لعدن ومنها للحبشة حتى نشاهد على الواقع إمكانية استكمال
دراستها ( كنت اشعر بالذنب لأني سحبتها معي من بغداد إلى بيروت )
في عدن أحسست بإحباط من وضع الإذاعة العدنية كلها ؛ التي كانت تحتل مبنى متهالك
منذ أيام الإنجليز ما تزال اللافتات المكتوبة بالإنجليزية موجودة على أبواب الغرف
المقبضة .
كان المشرف على الإذاعة المصرية ( وعلى من سيعمل بها من المصريين ) هو احمد
الرفاعي ( واحد من الرفاق القياديين في تنظيم حدتو الشيوعي , لكن مؤهلاته الإعلامية
والثقافية كانت صفرا . فقد كان يعمل في عدن في مكاتب الأمم المتحدة في القسم الزراعي أو
شيئا من هذا القبيل . وكل مؤهلاته الزراعية انه كان "مسئول الفلاحين " في التنظيم
الشيوعي .
اختلفنا منذ الأيام الأولى وتصاعد الخلاف بيننا حينما ذهبت لأديس ابابا فلم أجد إذاعة أو
أي شيء بل أكاذيب من المسئولين الأحباش بالإضافة ان كلية الطب هناك رفضت قبول
يمامة في للصف الثاني وطلبوا منها ان تبدأ من الأول خالص .. بالطبع لم نوافق وقررنا
عودتها إلى اليمن ومنها إلى بغداد لمواصلة دراستها .. أما أنا فعلي ان ادرس الموقف كله
من جديد !
عند عودتي لعدن مرة اخرى تصاعد خلافي مع الرفاعي حتى انه ابلغ الإذاعة اليمنية بمنعي
من الدخول هناك لأني معاد لسياسة الحزب الشيوعي . بالفعل مُنعت من الدخول .
علم ميشيل كامل مسئول الحزب في الخارج بالموقف المتأزم وحضر الى عدن ليستوضح ما
حدث . تمسك كل منا بروايته ولم ير كامل من بد سوى استجابة طلبي بالعودة الى بيروت
.
كتبت في السفير ثلاث مقالات عن الوضع في اثيوبيا بعنوان " كارل ماركس الأسود " وجاء
العنوان نتيجة تلك اللوحة ( الرديئة ) الموضوعة في مطار اديس ابابا تصور كارل ماركس
باعتباره إفريقيا اسود اللون !
كتبت عن الجثث الملقاة في الشوارع وفي النهر العائدة لأفراد من الحزب الشيوعي الأثيوبي
التي أمر منجستو بقتلهم بحجة انه يريد تأسيس الحزب من جديد وهو الذي لا يكاد يفك الخط
فقد كان مجرد رقيب في الجيش الإثيوبي ولك أن تتخيل الوضع الثقافي لرقيب في جيش افريقي
.. !كنت أقيم في فندق يطل على قناة صغيرة من نهر النيل . وكانت أديس أبابا تعيش تحت حظر
التجول يوميا من غروب الشمس إلى شروقها . استيقظ في الصباح واطل على القناة فأرى الجثث
عائمة !
1 التجأ فخري كريم مثل مئات غيره من العراقيين إلى لنان ليلتقطون انفاسهم إثناء وبعد هجمة صدام حسين الدموية عليهم.لا أعرف
بالتحديد منصب فخري داخل الحزب ، لكني تعرفت على "نفوذه المخيف " في بيروت حيث كان بإمكانه التحكم في حياة الرفاق العراقيين
. اقنعنا مرة أنا ويمامة بالذهاب إلى بغداد وتسليم جواز سفر لفتاة عراقية اسمها الحركي " ايمان " أيضا لكي تستطيع الخروج من العراق
إلى لبنان . قبلنا المهمة عن طيب خاطر بالرغم ما بها من مخاطر ،خاصة أن نظام صدام لم يكن ليتهاون مع "مهربين "امثالنا. وقد
خرجت الفتاة من بغداد ووصلت لنان بسلام ، لنكتسف بعد ذلك ( ا يمامة وانا ) بأنها لا قيمة حزبية لها سوى انها " صديقته ".. وقد
اسس فخري بعد ذلك دار نشر المدى وعندما سقطت بغداد تحت قوات الاحتلال الأمريكية ، اسس صحيفة المدى اليومية وقناة تلفزيونة
واقام علاقة وثيقة بجلال طالباني رئيس الجمهورية الكردي ( مثله ) .. وفخري شخصية مثيرة للجدل ..هذا كل ما استطيع قوله عنه !
لكن السوفيات في صراعهم مع الغرب على موطئ قدم في القرن ألأفريقي لم يمانعوا ان
يعلنوا تأييدهم لمنجستو .. وللحرب الي شنها على اريتريا
بقي أن نتذكر أن طائرات الولايات المتحدة ( السي أي إيه ) حملت منجستو وأسرته وأموال
الشعب الإثيوبي التي نهبها الى ملاذه الآمن بعد انتصار الثورة الأرتيرية على جيشه !
اثارت مقالاتي حفيظة الجهلة ( وهم كثر ) من اليساريين والشيوعيين المصريين وبدئوا في
شن حرب علي.. بدعوى إني شخص " مراجع " وفوضوي
في النهاية حينما احسست بأن التحقيق الذي طلبته مع الرفاعي في ما قام به في اليمن لن
يؤدي الى نتيجة استقلت من الحزب استقالتي الأخيرة الى غير رجعة . كنت قد تركت "
السفير " وعملت في " بيروت المساء " العائدة لمنظمة العمل الشيوعي اللبناني وكان فواز
طرابلسي يشرف على التحرير ونشأت بيننا علاقة طيبة وقدمني لمحسن ابراهيم 2 .تعرفت
على فواز وبيروت المساء بفضل تزكية من بلال الحسن الذي كان يعمل في السفير كنائب
لرئيس التحرير .. عملي في بيروت المساء استمر حتى الغزو الإسرائيلي ( يونيو -حزيران
1982 ) وبعدها غادرت بيروت الغربية المحاصرة بفضل مساعدة فواز طرابلسي .. متجها
لدمشق ومنها للقاهرة التي وصلتها في منتصف أغسطس -أب من نفس العام بعد غيبة 12 سنة
متواصلة لم اتحمس فيها للعودة .. خاصة بعد ان استقر بي المقام في بيروت التي احببتها
وأحسست بحريتي فيها .. فهي مدينة بالغة الخصوصية . 3
وطن صباح الخير
القاهرة صيف 1982
بعد عودتي من بيروت ، استضافني صنع لله ابراهيم في شقته الصغيرة في مصر الجديدة .
( إقامة طويلة ) كنا نلتقي كلانا خارج مصر حينما كان هو في برلين الشرقية وانا في
وارسو ..كذلك زرته في موسكو حينما ذهب ليدرس الإخراج السينمائي .
في برلين كان يكتب "نجمة اغسطس " بعد ان نشر قبل ذلك " تلك الرائحة " وأكد وجوده
ككاتب متميز .
حينما وصلت بغداد كانت " نجمة اغسطس " قد ظهرت وأعطاني كمال القلش نسخته لكي
اقرأها . كان صنع لله قد رجع الى القاهرة ليستقر فيها . اذكر اني كتبت له ملاحظاتي
على الرواية . لم يكن ما كتبته نقد بل ملاحظات سريعة .. اذكر منها سخريتي من ان يبدأ
الرواية بفقرة عن رؤيته للخراء الخارج منه في التواليت وقلت له ان هذا شيئا مقرفا .
عرفت بعد ذلك من كمال انه زعل من ما كتبته . تأكدت لي بعد ذلك حساسيته المبالغ
فيها من النقد الموجه له على أي مستوى كان :أدبي ام شخصي .
2 كان بلال الحسن الفلسطيني واحد المسؤلين في صحيفة السفير هو الذي اقترح عليّ وعلى بيروت المساء العمل معهم . الحقيقة كانت
فكرة صائبة وقد عملت معهم حتى آخر يوم تركت فيه لبنان وبيروت ولم اجد منهم سوى حسن المعاملة والكرم .
3 التقيت في دمشق برفعت السعيد وقد كان كريما معي إذ عرض علي مساعدة مالية رفضتها فقد كان ما معي من نقود يكفيني. واعطاني
أرقام هواتفه لاتصل به إذا ما حدثت لي مشكلة في المطار .. لم تحدث مشكلة بل كان ضابط الجوازات الذي تعامل معي لطيفا ومهذبا
وسألني بهمس واهتمام صادق " اللبنانيين عاملين إيه في الحرب " ؟
هكذا حططت رحالي في شقة صنع لله لبعض الوقت ( شهران او ثلاثة ) وهناك كتبت
بتشجيع منه عن تجربة الغزو الإسرائيلي في كتابة خاطفة وانفعالية بعنوان " صباح الخير
ياوطن " 4 ونشرته مجموعة من الشبان المتحمسين الذين اسسوا " مطبوعات القاهرة " وهم
احمد سيف الإسلام الذي القي القبض عليه بعد ذلك في قضية اطلقت عليها مباحث امن الدولة
" التنظيم الشيوعي المسلح " وعلاء سويف الذي عمل بعد ذلك في مجال الكمبيوتر وعصام
الذي اتجه للسينما .
التقيت ايامها بأرملة شهدي ( روكساني ) التي اقترحت أن نؤسس سويا مع ابنتها حنان (
التي كانت تدرس الموسيقى في كونسرفتوار موسكو ) دار شهدي للنشر.
وهكذا انتقلت من مصر الجديدة الى شقة صغير في الزمالك تعود إلى أصدقاء يونانيين لأرملة
شهدي اليونانية الأصل في شارع اسماعيل محمد المتعامد مع شجرة الدر .. تبعد بضعة شوارع
عن الشقة القديمة الزمالكاوية التي سكنت فيها انا وصنع لله بعد خروجنا من المعتقل !
بكين ديسمبر 2001
هاأنذا لأول مرة في ميدان " السلام السماوي " اقف تحت اللوحة الشاهقة الملونة لماو دزي
دونج ( كما يكتبونه الآن وكما تغيرت بكين الى بيجين ) امامي المدينة المحرمة ومن
الناحية الأخرى متحف وضريح ماو.
شاهدت قبل سنوات( في التلفزيون ) سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي وما اُلق
عليه اصطلاح " المنظومة الشيوعية " .. بينما بقيت كوبا والصين ( رغم التباين العقائدي
والجغرافي - التاريخي ) صامدتان .
كوبا كنت قد زرتها في مهرجان الشباب العالمي في عام 1980 ( على ما اتذكر ! ) وقبلها
معظم دول شرق اوربا اكثر من مرة نتيجة اقامتي في بولندا بالإضافة طبعا للإتحاد
السوفياتي .
السوفيات إبان خلافهم مع الصين نحتوا اصطلاح "عبادة الفرد" ورد ت الصين باتهامات
عقائدية اهمها خروج الحزب الشيوعي السوفياتي عن التعاليم الأساسية للماركسية اللينينية .
كنت اعمل في وكالة نوفستي الروسية للأنباء (مقرها الزمالك ) عند اشتداد حدة الصراع بين
موسكو وبيجين وخاصة عند " اندلاع " الثورة الثقافية . كنت اقوم بالترجمة اليومية
لنصوص وأخبار وتعليقات .. الخ تهاجم الصين وترسم للوضع فيها صورة قاتمة ولا
إنسانية .
لم اكن اصدق بالطبع كل ما كنت اترجمه . لكن لم يكن هناك مصدر آخر للأخبار سوى
حفنة من " الماويين " المصريين المشكوك في نزاهتهم وحيادهم(!)
وهكذا تمر مياه كثيرة من تحت جسور عديدة لأجد نفسي في ميدان السلام السماوي بعد
نهاية القرن العشرين اياه!
حقيقة كنت اكبت رغبة داخلية تنمو ببطء في السفر الى الصين . فوجئت ذات يوم من عام
2000 بأن احمد جامع صاحب السناك بار المجاور لمنزلي في امستردام يعلن لي بأنه مسافر
مع زوجته ( الهولندية ) وولديه الصغيرين لقضاء اجازة نصف العام الدراسي (اسبوعين )
في بيجين .
4 وهي كتابة قصدتها "محايدة " أيضا ..اي إني كاتب ولست مقاتلا .ولم ادع بطولات خاصة بي . وان كان الكتاب قد أزعج البعض
أيضا .
عصرته ، أريد معرفة اكبر قدر من المعلومات وتكاليف الرحلة . في الوقت ذاته كانت
شقيقتي رونسي التي هاجرت منذ امد طويل لأستراليا ولم ارها منذ سنوات استطاعت ان
تعثر على عنواني في امستردام وتراسلني وتغريني بالقدوم لأستراليا وتعلن انها على استعداد
لدفع ثمن البطاقة .
قررت عندئذ أن اشد الرحال لأستراليا عبر الصين ! وان نتقاسم تكاليف السفر .
هكذا ركبت طائرة الخطوط الصينية المتجهة من امستردام الى بيجين عصر يوم 7 ديسمبر
2001
في الطائرة تعرفت على الفتاة الصبوحة الصينية الجالسة بجواري والتي تتحدث الإنجليزية
أحسن مني (! )وعندما هبطنا مطار بكين اقلتني والدتها التي لا تتحدث كلمة واحدة من
الإنجليزية الى فندق رخيص ومعقول .. لتأتي فتاة الطائرة كما اتفقنا، في اليوم الثاني
لتأخذني في جولة في بيجين تبدأ بميدان السلام السماوي .
تجولت في مدن لها روائح خاصة : موسكو ،الخرطوم ، باريس لندن ،بيروت ودمشق ، عدن
وصنعاء ،بودابست واسطنبول وارسو وبوخارست ، البرلينيتين قبل وبعد . جنيف، هافانا
ونيويورك . استوكهلم وكوبنهاجن .. لكن بيجين اثارت داخلي اشياء لم تثرها واحدة من هذه
المدن.
هل كان ذلك بسب "ما و تدز دونج " ؟ وتاريخي السياسي .. ام ان الموضوع كله يتعلق
بالسنوات الأخيرة من العمر حينما يصبح الواحد سريع التأثر ،شديده ، حينما ترق الستائر،
وتخف ، تلك التي كان يراكمها على مشاعره منذ الطفولة تفصل بين دواخله وخوارجها ؟
لا أعلم .
فهي بيجين ما بعد الثورة الثقافية وعصابة الأربعة .. بيجين ماكدونالد وكنتاكي وتشيس
مانهاتن بانك ومقاهي الإنترنيت والديسكو وفتيات "المساج "( أنصاف شراميط ) 5 بيجين التي
التقي فيها بفتيات فاتنات أخذنني للمطاعم بدون حرج او خوف من الشرطة السرية أو الى
منازلهن ( من نائبة المديرة في الفندق ) وأتعرف على زوجها وأمها حيث يوجد على الحائط
بوستر بالحروف الصينية واللاتينية لتعليم الابن الذي بدأ الكلام من فترة قريبة .. الإنجليزية .
المدينة التي ستستقبل الالعاب الأولمبية في عام 2004 . بيجين التي تختفي منها الدراجات
وسترات ماو لتحل محلها السيارات اليابانية والسترات الإيطالية وموسيقى البوب والروك
والميتاليك !
بيجين المدينة المحرمة ووادي السيلكون الصيني حيث يُنتج الكمبيوتر والسي دي .
*محمود امين العالم وعبد العظيم أنيس :في الثقافة المصرية
عام 1955 اصدرت "دار الفكر الجديد - القاهرة " الطبعة الأولى من كتاب في الثقافة
المصرية لمحمود امين العالم 6 و"الدكتور " عبد العظيم انيس ( دكتوارة في الرياضيات البحتة)
قدم له حسين مروة الذي عّرف نفسه أنه "من رابطة الكتاب العرب " وكتب ضمن ما كتب
في المقدمة " ان واضعي هذه الدراسات ، انما وضعاها وهما يخوضان معركة فكرية هي
معركتنا نحن في لبنان ، ومعركة اخولننا الكتاب العرب الواقعيين هناك في سوريا والأردن
5 في الفندق الذي كنت اقيم فيه عرض عليّ الريسبشن "مساج" فوافقت ،وجاءت بنت لطيفة وبدأت تساوم ..تتحدث انجليزية بسيطة وكنت
اخفض عامدا ثمن " المساج " الذي أفهمتني بإشارات من يدها انه ليس المساج " الحقيقي " الذي كنت أتوهم
6 رفض العالم إثناء رئاسته لمؤسسة المسرح أن يدرج مسرحيتي "النفق " في برنامج المسرح وأصر عرضها رقابيا - للمرة الثانية –
وبالرغم من إجازتها – للمرة الثانية أيضا – فلم يوافق عليها .عرفت بعد ذلك سبب احجامه ، فهو ملكي أكثر من الملك وكان دائما يبغي
رضاء السلطة الناصرية عنه
والعراق والسودان والجزيرة وحتى بلدان المغرب العربي في الجانب البعيد، نعني بها المعركة
الأزلية بين القديم والجديد .. بين ثقافة تنعكس فيها أراء ومفاهيم وقيم تريد ان تدل على مكان
فئة تلد في المجتمع جديدا ، لكي تنقل هذا المجتمع الى دور تاريخي جديد ،ثم لكي ترفع هذا
المجتمع الى منزلة ارحب وفضاء اوسع وانسانية اسمى وحياة اجمل وأفضل "
وفي الطبعة الثالثة الصادرة عام 1989 في القاهرة ايضا ( الطبعة الثانية صدرت في المغرب
عام 1988 من دار امان ) يتسائل الكاتبان في عنوان مقدمتها " هذا الكتاب .. أين نحن منه
اليوم وأين هو منّا ! "
يكتبان : لم نكتب مقدمة لهذا ا لكتاب عندما صدر لأول مرة في بيروت عام 1955 أي منذ
أربعة وثلاثين عاما , وها نحن بعد هذه السنوات الطويلة نكتب مقدمة له والحقيقة أنها ليست
مقدمة بقدر ما هي تعقيب وان جاء في مقدمة الكتاب . ذلك أنها حصيلة خبرة هذا الكتاب في حياة
الأدب العربي ، ابداعا ونقدا ،وهي حصيلتنا من هذه الخبرة "
لنتمعن إذن هذه الحصيلة التي قال الكاتبان أنها خبرة متبادلة للكتاب في حياة الأدب العربي
وحصيلتهما من هذه الخبرة .
ففي المقدمة التي شغلت 10 صفحات من الحجم المتوسط والبنط العادي نخرج بما يلي من
واقع كتابتهما بعد " أربعة وثلاثين عاما منذ صدور الكتاب "
يقولان :
* لم نقصد من هذا الاستطراد ( المقدمة ) الدفاع عن موقفنا النقدي بقدر حرصنا على توضح
بعض لقضايا التي ما تزال موضع خلاف واختلاف ، بل موضوع أحكام تبلغ أحيانا حد
التعسف والتجني .
*( نقدم ) اجتهادا يشرفنا أن نقول انه كان موضع احتفال لعدد كبير من الباحثين والدارسين
في مختلف الجامعات العربية وغير العربية وكان موضوع العديد من رسائل الماجستير
والدكتوراة في هذه لجامعات .
*ليس معنى ذلك إننا ما نزال نقف عند حدود ما قلناه منذ أربعة وثلاثين عاما ، إننا ابعد تماما
أن نقول بهذا .
* ما موقنا ( ا ليوم ) من هذا الكتاب ؟ وماذا نختلف اليوم فيه ومعه ؟ نقول ببساطة وغير تعنت
: إننا ما نزال نرى أن الجوهر الفكري والمعرفي للكتاب ما يزال صحيحا من الناحية النظرية
العامة الخالصة ,. فما تغيرت وجهة نظرنا في الدلالة الاجتماعية للعمل الأدبي ، وما تغيرت
في العلاقة العضوية البنيوية الدينميكية بين الصياغة والمضمون وبين القيمة الإبداعية
الجمالية والدلالة المعرفية والثقافية .
* نقر إننا في الكثير من تطبيقاتنا النقدية كانت العناية بالدلالة الاجتماعية والوطنية للعمل
الأدبي تغلب على العناية بالقيمة الجمالية . ونفسره في الحقيقة بعدم امتلاكنا للوسائل والآليات
الإجرائية لتحديد وكشف العلاقة بين الصياغة والمضمون .
* أثمن ما تعلمناه طوال هذه السنوات هو محاولة الخروج من الأحكام العامة سواء فيما
يتعلق بالدلالة المضمونية أو القيمة الجمالية إلى تحديد آليات هذه الدلالة وهذه القيمة على نحو
أكثر دقة .
الخ ..الخ !
وأقدم هنا مقتطفات من " التطبيقات النقدية " و" العناية بالدلالة الاجتماعية والوطنية "
على حساب العناية بالقيمة الجمالية :
يكتبان
" خذ مثلا إحسان عبد القدوس وقصصه .لماذا يختار إحسان أبطال كل قصصه أفرادا في طريق
الهاوية إلى الانحلال الخلقي والتعفن النفسي وتدهور الضمير ؟ لماذا كانت الدعارة وبيع الأجساد
بالمال موضوعا عاما في إنتاج إحسان الأدبي؟ ا، إحسان يجيبنا بقوله " لا استطيع غير ذلك
فهذا هو الواقع "
يجيب الكاتبان على إحسان " من المسلم به أن أبطالا من هذا الطراز موجودون
أحياء في مصر في ملاهي عماد الدين أو سهرات الأوبرج أو نوادي السباق أو حفلات الطبقة
"الراقية "فمثل هذه الأماكن مملوءة بالأرواح الميتة التي لا تعرف هدفا لوجودها ، مملوءة
بالنفوس التي حطمها الضجر والخمول وشراء الأجساد بالمال وتعاطي المخدرات وموت الضمير "
ويفرق الكاتبان بين " مصر إحسان ومصر الأخرى " : " أن هناك مصرا أخرى ، مصر التي
يعيش فيها ملايين من العمال والفلاحين والطلبة والموظفين يعملون في المصانع والحقول
والمعامل والدواوين .. بالاختصار هناك شعبا بأسره يضطرب بالحياة والقلق والتطلع إلى
المستقبل . ومثل هذه الحياة مثل هذه الملايين من أبناء الشعب تستطيع أن تزود الفنان بمادة
حية لفنه لو شاء أن يختار" ص 33
ويلتفت الكاتبان إلى توفيق الحكيم ويعتبراه " درسا قاسيا لكثير من أدبائنا "
ويتسائلان " هل فهم ( الحكيم ) قوى الريف والمجتمع التي كانت تبشر من ذلك الحين
بالقضاء على الأ وضاع المفزعة ؟ هل عبر توفيق عن هذا الإدراك في اليوميات أو في غيرها
؟ الجواب في رأي بالنفي "
أما إبراهيم المازني فهو " الهارب من الحياة "
بالنسبة لشخصيات نجيب محفوظ في رواياته الأربع : فضيحة في القاهرة وزقاق المدق وخان
الخليلي وبداية ونهاية، يقولان ، " .. فالحقيقة أن نجيب محفوظ ككاتب بورجوازي يختبر
تجارب مرحلة تاريخية في مصر تميزت بالهدوء النسبي والقلق والشك لا يستطيع أن يقدم لنا
"البطل " الثوري بمعناه الحقيقي . إذن أين هو البطل في مصر آنذاك ؟ اهو الطالب ؟ اهو
المثقف ؟ أهو العامل ؟ انه ليس هذا أو ذاك في الظاهر . وحين يعجز الكاتب أن يرى جنين
هذا الثوري ممثلا في العامل المصري في مرحلة هادئة نسبيا من الناحية السياسية والاجتماعية
وكل كتاب البرجوازية الشرفاء ، كنجيب محفوظ يعجزون عن رؤية ذلك بدون شك يكون
من الطبيعي أن يتجه إلى قتل فكرة بطل الرواية "
وأيضا " سنظل نفتقد شخصية كشخصية الأم عند جوركي أو كشخصية " أما " في مدام
بوقاري أو هيثكليف في مرتفعات ويذرنج . نجيب محفوظ لا يدعي انه مهتم بشخصية " البطل
" بالمعنى الكلاسيكي المعروف في الرواية الغربية ويظن المعجبون به انه بالقضاء على
فكرة البطل قد تقدم في الناحية الفنية "
أوردت هذه الأمثلة السريعة والقليلة لكي ادلل على بضعة أشياء : أن " الكتابة "
في الخمسينيات والستينيات ( حينما ظهرت الموجة الجديدة بعد إغلاق المعتقلات ثم
تأكدت بعد هزيمة 67 ) كانت محفوفة بمخاطر التخوين والتحقير والتقليل من شأنها
بواسطة قومسياري الثقافة " الوطنية "
انه بالرغم من مرور السنوات العديدة على " في الثقافة المصرية " فما زالت
قوى التخوين والتحقير تمارس دورها بنفس الضراوة وتجد من يساندها الآن من سيوف
الجماعات الإسلامية التي تتوحد مع " الجماعة الثقافية " بمواجهة التجديد وكتابة موت
البطل أو انتصار الجسد
لا جديد تحت الشمس !
م مارس الصعبة أ
2002
هذه الأيام الصعبة أيام مذابح الفلسطينين في الأرض المحتلة لا يعرف الواحد ماذا يفعل.
فقد انكببت منذ أيام على قراءة رواية علاء الديب " أيام وردية " وقررت أن اكتب
مراجعة لها وبالفعل أرسلتها ل" الحياة " منذ بضعة أيام . الأربعاء الماضي تصفحت
الصفحات الأدبية في الحياة ، فلم أجد مراجعتي بل وجدت تعليقا سخيفا من جابر عصفر
إلى ليانة بدر يقول فيه أن كان غائبا عن القاهرة يمارس الناقد في داخله بعيدا عن
الأعمال الإدارية ( رئيس المجلس العلى للثقافة بدرجة وراتب وزير بالإضافة للمخصصات )
وكانت ليانة بدر قد جاءت للقاهرة مشتركة في مهرجان سينما الأطفال بفلم لها عن أطفال
فلسطين أظن أن اسمه " زيتونات " ولم تجد عصفور في مكتبه المطل على النيل حيث
كان يمارس دور الناقد في فنادق خمسة نجوم ثم حدث ما حدث في فلسطين . يعترف الرجل
بأنه لا يستطيع فعل شيء سوى أن ينشر رسالة ليانة ويبعث لها بتحية مماثلة .
نشرت الحياة اليوم لي " مداخلة " في موضوع حوار وثيقة الستين التي قام بنشرها ستون
كاتبا أمريكيا يطالبون المسلمين بتفهم أسباب امريكا وشعبها في شن الحرب على أفغانستان
باعتبارها حربا عادلة . الحقيقة لم أكن أريد أن أخوض في هذا الموضع المبتذل عن
الحرب ضد الطالبان لكن النغمة المسيحية التي تبنتها الوثيقة والادعاء بديموقراطية امريكية
مسيحية أثار غضبي فكتبت أقول أن ألديانات كلها تحرض على العنف واثبت قواي بآيات
من التوراة والإنجيل والقرآن . لكن الحياة نشرت النص خاليا من هذه الفكرة التي اعترف
بأن الحياة لم تكن تستطيع نشرها وان كنت أحيانا أنسى وضعها الدقيق الرقيق .
ثبت الراديو على ساعات المعارك الاسرائيليية ووقائعها اليومية والموقف الأمريكي الواضح
من محاباة إسرائيل على طول الخط . هذا ليس اكتشافا عبقريا بل أي مبتدئ في السياسة
يعرف هذا . كتبته منذ سنتين بدافع تذكير الذين حاربوني وكفروني لأني ذهبت لإسرائيل وهم
يحجون كما قلت في مقدمة كتابي إلى جامعات امريكا ويقبضون بالدولار الصحيح( كان
صنع لله القادم لتوه من تدريس محاضرات في جامعة امريكية باني قبضت ثمن رحلتي
بالشيكل ) .. لكن بالطبع هذه دقة وتلك أخرى كما يقول أولاد البلد. 7
بالمناسبة قرأت مراجعة لثلاثة كتب عن كاتبين غربيين هما الأمريكي " ريتشارد رايت
" والإيطالي إيجنازو سيلوني " وكيف أن كل منهما تعامل مع " الأجهزة " في بلده وابلغ
عن زملائه ورفاقه ! من كان يتصور ذلك من واحد مثل رايت الذي أعتبر أبو القصة
السوداء في امريكا وسيلوني صاحب خبز ونبيذ ! لكن لا بد من كشف المستور يوما ما !
كم من الجماعة عندنا تعامل مع الأجهزة ؟ هل الإجابة سهلة ؟ ففي بلادنا حيث تلدغ
العقرب الضفدع التي تحملها عبر الماء تكشف الأجهزة من وقت لآخر عن عملائها ..
تلدغهم عبر الماء !
7 بالنسبة لصنع لله فقد كانت دار شهدي التي ادرتها أنا هي أول دار مصرية تطبع له تلك الرائحة كاملة وقد اصر صنع لله أن يستلم
خمسة عشر بالمائة من سعر الغلاف ..وكتبنا عقدا بهذا وبالفعل تسلم مستحقاته كاملة رغم تعثر الدار في سداد التزاماتها المالية
اليوم كنت أفكر في يوسف ادريس وعبقريته الخاصة وضعفه الإنساني وحبه للشهرة
والظهور . كنت قد أنهيت منذ أسابيع رواية " البيضاء " التي كتبها لينجو بجلده من
معتقلات عبد الناصر للمرة الثانية ,القارئ المتمعن سيكتشف أنها مكتوبة بسرعة ( وان
كانت بها لحظات بارقة ) وبعض أجزائها ضعيفة . لكنه كراوية و ( طبيب أيضا ) جلد
نفسه بعنف واظهر للقارئ شخصية الطبيب البطل الضحلة .
بعد سنوات من كتابة البيضاء ( وكنت قد تعرفت عليه " قبلني في القاهرة حيث يسكن كلانا ، و
أقنعني بأنه يريد أن يستأجر مني نصف الشقة التي كان يشاركني فيها صنع لله قبل رحيله
إلى بيروت سنة 68 . قال انه يريد مكانا بعيدا عن البيت يستخدمه كمكتب ( بالرغم من
وجود مكتبه في الأهرام ) لكني كنت اشك انه يريد أن يستخدمها لأهداف أخرى لم يعلن
عنها استحياء . ترددت لكنه ألحف .فقد كانت حالته تلك الأيام مؤسية بعد محاولة انتحار
فاشلة وبالإضافة إلى إدمانه على الحقن المخدرة التي اصبحت معروفة . كنت قد وجدته
"مخرشما 8 " سألته ماذا حدث ، فقال لي انه كان يقود سيارته ودخل في جدل مع زوجته التي
كانت بجواره ، فقرر الدخول في شجرة أو حائط ( لا اذكر )
لن ادخل في تفاصيل هنا فالرجل رحل عن عالمنا .
المهم .. لم يستمر معي في الشقة أكثر من شهرين .
السجن ما بين 1960 و 1946
الكتابة عن السجن محيرة . هناك بعض الكتاب - خاصة من الذين لم يذوقوه - يعايرون
الكتاب الذين خبروه ويكتبون عنه بأنهم يرددون حكايات " خاصة لا تهم أحدا " اعرف
أن معظمهم لسبب أو لآخر نفذوا من السجن وبالتالي لا يحبون أن يذكرهم احد بوجوده
أو بمن عاشوا ومرضوا وتعذبوا وماتوا فيه خاصة أن سجانيهم كانوا من بتوع ثورة يوليو
.
لكني لن اكف عن الكتابة عن السجن لأنه يلاحقني في الكثير من أحلامي وكوابيسي العديدة
. لن يكف عني حتى إذا تركته .
أول احتكاك لي بالدولة وبسجونها كان في أيام باندونج عام 1955 ( هل ما زال احد
يذكرها ) حين قرر تنظيمنا الشيوعي إن عبد الناصر خلاص بقي ديمقراطي لمجرد انه التقى
شوإن لاي وما وتسي تونج ونهرو وتيتو وسوكارنو .. الخ في مؤتمر باندونج ونتيجة لهذا
التحليل فلا مانع من توزيع منشورات التنظيم في الشارع . با لفعل ذهبت مع " نبيل ميخائيل
" زميلي ومسؤلي في التنظيم لنوزع المنشورات في الفجالة والظاهر باليد على المواطنين
الصالحين " جماهيرنا " . المنشورات كانت تحلل ما حدث في باندونج وتحض على
الالتفاف حول القيادة السياسية وتشجيعها على انتهاج النهج الوطني ( لم يكن احد أيامها
يجرؤ على الحديث عن الاشتراكية ) وقبل إن ننهي مهمتنا قمنا بتوزيع المنشورات على
شلة من الشباب يقفون على ناصية شارع ما . واحد منهم نبيه قرأ التوقيع وصاح "
شيوعيين " حاولنا إن نفهمه إننا جبهة وطنية ضد الاستعمار .. الخ لكنهم امسكوا بنا
وصفعونا كام مرة ثم ابلغوا الشرطة التي وصلت بسرعة غير معهودة فيها . قضينا ليلتنا
في قسم الشرطة ليرحلونا في الصباح التالي للمباحث - قسم مكافحة الشيوعية ( يلاحظ
8 تطبيقا للمبدأ الذي وضعته لنفسي بعدم الحديث "الشائك " عن الأموات الذين لا يستطيعوا الرد ، فإني أتوقف هنا عن سردي ليوسف
إدريس وما قلته – عن إدمانه - كان معروفا للعامة . أما عن رغبته في مشاركتي الشقة وأسبابه التي خمنتها فلن أقول أكثر من ذلك احتراما
لمبدأي الذي أشرت إليه
الواحد هنا استخدام اصطلاحات وطنية مثل المكافحة ! ) لنتلقي على انفراد بالعقيد عشوب
الشهير الذي اكتسب سمعته من قسوته وساديته .
عمري وقتها كان 18 سنة . لا بد إني كنت أبدو مثل الفأر المذعور لأنه بعد ساعات من
الانتظار المتعمد أدخلوني على مكتبه ليقول لي ساخرا : إني ابن ناس طيبين وأبوك قسيس
وتهتم بدروسك أحسن لك مالك ومال الشيوعيين . دول بينكوا .. بعض في السجن وبرا
السجن كمان .
فوجئت بوقاحته وسوقيته ولم استطع الرد " ارتج عليّ كما يقولون " وخرجت مطلق
السراح من المبنى المخيف. أتذكر إني وقفت امام محل عصير مواجه وشربت كوبا من
عصير القصب ابل ريقي الذي نشف من الخوف .كنت بالطبع استعد لمواجهة أهلي الذين لا
يعرفون ما ذا حدث لي منذ إن تركت البيت عصر اليوم السابق واختفت آثاري .. وبالطبع
أيامها لم تكن التليفونات متوفرة لا في الشوارع ولا في البيوت . ونحن مثل الأغلبية ليس
عندنا تليفون .
لعل ما تبقى معي من نقود تافهة ، كان يكفي لتذكرة الترام الرخيصة جدا الذي يقلني للبيت .
حينما وصلت وجدت الجميع في حالة وجوم . بالطبع كانت حالتي الجسدية بعد ليلة في
القسم ومقابلة عشوب السبب في جعل الأ سرة تتجاهل سبب غيبتي وبالتالي معاقبتي .
بعد بضعة أسابيع التقيت نبيل وقال لي إن أهله سيرسلونه ليدرس في المانيا الشرقية . كان
يبدو منزعجا وخجل ، لكني تحملت الخبر بشجاعة . كنت الآن في السنة ألاولى في
دراستي الجامعية وادرس في قسم الصحافة . فلم أهتم .
بالفعل سافر نبيل ولم التق به الا بعد حواليى عشرين سنة حينما قدمت من العراق حيث
كنت اعمل إلى المانيا الشرقية ، لأحضر مؤتمرا للمسرح في برلين الشرقية . كنت قد دخلت
السجن في مصر - بجد - هذه المرة بعد محاكمة عسكرية لأقضي حكما بأربع سنوات .
كنا ثلاثة علين "مصاريف " وقررنا العمل بها في القسم ( باب شرقي- إسكندرية ) غرفة
الحجز في أقسام البوليس متشابهة ، أنا اعرف معظمها ، فقد عملت لمدة ثلاثة شهور في
قسم باب شرقي بالإسكندرية مقابل الغرامة المفروضة عليّ من المحكمة العسكرية ( مائة
جنيه ) يعني اليوم بحوالي جنيه !
عملي في القسم كان لوقت قصير هو تنظيف غرفة الحجز وإحضار الشاي والقهوة للعسكر
والرقباء ولكن بعد إن رشينا ثلاثتنا العريف المسئول كل منا بجنيهين في الشهر كنا نقضي
وقتا في الحديقة المقابلة نقرأ الصحف .
غرفة الحجز موصوفة في أكثر من مكان . وصفها صنع لله ابراهيم للمرة الأولى على
ما اعتقد في عمل روائي عربي في " تلك الرائحة " وتوالى الوصف لها مرات قليلة بعد
ذلك . أنا لم أصفها في بيضة النعامة . اعتقد إني لم أكن اعرف ماذا افعل بمادة كبيرة
عندي .
لكني وصفت السجن ورائحته وصمته وضجيجه . حينما اقرأ ، اليوم ، ما كتبته منذ
سنوات عن السجن اعتقد انه غير كاف وجاف بعض الشيء . أفكر الآن ماذا يمكن الكتابة
عن السجن . انه عالم قائم بذاته ، ومهما حاول الإنسان وصفه فلن يفلح أو على الأ قل
سيفلح لكن من وجهة نظره . فالسجن بشكل عام يمثل الحياة خارج الجدران بصورة
مبتذلة " كيتش " إن جاز القول . فالحياة تسير بسهولة وسلاسة لمن عنده نقود داخل
السجن : يشتري السجان ويشتري الطعام والمخدرات والجنس الذكوري بالطبع .
لعل بيضة النعامة ( ولله اعلم ) كانت الرائدة في وصف السجن العربي الوطني إن جاز
التعبير ! بعد ذلك كتب صنع لله " شرف " ولكنه حددها بمسجون غير سياسي اتهم بالقتل
دفاعا عن " شرف مؤخرته " ولم يستطع الكاتب إن يتخلى في الرواية التي تحكي عن
الطبقة الوسطى المصرية التي تخصص فيها ، لم يستطع إن يتخلى عن الخطاب السياسي
في شرف فحملها بما لا تحتمل . يؤكد قولي هذا إن الترجمة الفرنسية خلت من مشهدين
كبيرين في النص العربي :مشهد مسرح العرائس في السجن ومنولوجات الصيدلي الطويلة
القاتلة من الملل .
كنت قد قلت لصنع لله رأي في الفصول الزائدة ، ووافق معي وقلت له إن يتخلص منها
في الطبعة الثانية .. لكني أحسست انه متضجر من " نقدي " وبعد ذلك اختلفنا حول
موضوع زيارتي للقدس وغيرها من المدن الإسرائيلية الفلسطينية .
حينما نشرت " في انتظار المخلص " كتبت مقدمة اعني فيها صنع لله ومن لف لفه ممن
يحجون إلى امريكا . عرفت انه غضب وأوعز لصحفي صديق له ( هكذا قيل لي ) ( وائل
عبد الفتاح ) يكتب عني في صحيفة صوت الأمة العائدة إلى عادل حمودة ومموليه إني اعمل
لحساب المخابرات الهولندية ( لماذا لم تكن الموساد مثلا ؟!) واني أتحكم من موقعي
ألمخابراتي الهولندي في دخول اللاجئين العراقيين إلى هولندا . كتبت ردا إلى صوت الأمة
أرسلته بالفاكس ( كنت في القاهرة وقتها ) ولكنهم لم ينشروه وحينما أقمت دعوى ضدهم
اتصلوا بالمحامي بتاعي وطلبوا إن اختصر الرد . لم اقبل فالرد كان على قدر المقال (
المقال طويل وكان يتعلق بمديح أهداف سويف بعد زيارتها لإسرائيل وشتيمتي مع علي سالم
) وخسرت الجولة الأولى في القضية لأن المحكمة حمت بعدم الاختصاص بعد ثلاث
جلسات استماع حيث تغير القاضي الأصلي وحل محله قاضي آخر جديد ! 9
وبمناسبة القضاء والسجن فقد رفعت قضية على الدولة أسوة بغيري من سجناء الرأي في
عهد عبد الناصر وكسبت الدعوى في الاستئناف بعد إن خسرتها في الدرجة الأولى التي
كانت في حيثياتها نقيضا لحكم الدرجة الأولى !
وعلى ذكر المحكمة العسكرية التي حاكتني مع 15 غيري أورد بعض الملاحظات جديرة
بالتسجيل هنا .
القاضي الرئيسي كان الفريق هلال عبد لله هلال وهو احمر الوجه خمسيني العمر ( عام
1962 ) ويحيط به عضوان من اليمين واليسار بدرجة عسكرية اقل . وكيل النيابة اسمه
سمير مصلح وهو الذي قام بالتحقيق مع معظم أعضاء القضية . الشاهد الرئيسي هو رئيس
مكتب مكافحة الشيوعية وقد أقاله عبد الناصر بعد فضيحة مقتل شهدي وذهب إلى دولة
خليجية يعمل فيها .
المتهم الأول كان أبو سيف يوسف أبو سيف سكرتير عام " الحزب " والمتهم الثاني إسماعيل
المهدوي . كنت إنا المتهم الرابع عشر ويحي مختار الكاتب النوبي المتهم الخامس عشر . تم
نقلنا من سجن القناطر حيث أمضينا 8 شهور تحت التحقيق إلى سجن إسكندرية حيث
عقدت المحكمة في مبنى دار القضاء في المنشية وتطل على البحر في مواجهة تمثال الجندي
المجهول .
9 قام الصديق المشترك هاني عنان بمصالحتي مع وائل عبد الفتاح . من المهم هنا أن أقول أن وائل كان أيضا من اصدقائي حينما أقمت
الدعوى عليه. قد سائني موقفه ولذا قررت إقامة الدعوى . الآن حينما نلتقي نذكر ضاحكين هذه القضية التي لم تكتمل وان كان كل منا
يرو وقائعها بشكل مختلف
كان واحد من ضباط السجن واسمه كميل ( لا اعرف بقية الإسم ) وقبطي . لسبب ما ولعله
بتكليف من المباحث كان دائما يثير المشاكل معنا حتى قرروا وضعنا في زنازين الإعدام .
وهي زنازين منفصلة عن المبنى الرئيسي للسجن ويحيط بها سور عال . لعلهم كانوا
يريدون إرهابنا وتخويفنا ولكننا لم نبال وحولنا الفناء الصغير المواجه للزنزانتين التي
حشرونا فيهما إلى ملعب لكرة القدم . لكن كميل اعترض على " الزيطة " ثم احتك مرة
مع إسماعيل المهدوي فقام إسماعيل بصفعه وتطور الموقف وعزلونا في زنازين منفردة ثم
قاموا بحرماننا من الصحف التي قررتها المحكمة لنا فقمنا بالإضراب عن الطعام . استمر
إضرابنا اقل من أسبوع وكنت من المشاركين في الإضراب معزولا مثل غيري في زنزانة
انفرادية .
لست بهدف الحديث عن بطولات ما شخصية أو جماعية ( فليس هذا هدفي من الكتابة
هنا ) لكن فقط عن السجون المصرية اللا إنسانية للسياسيين وغير السياسيين وهي تدل
على احتقار كامل للإنسان بريئا كان آم مذنبا . ومع إني دخلت " السجن بعد ما أطلق
عليه الشيوعيون اصطلاح " فكه " أي انفراج وتوقف التعذيب بعد مقتل شهدي عطية
الشافعي وبالتالي لم اعمل في تكسير الأحجار في أبي زعبل مثل غيري من السياسيين وأواجه
الضرب اليومي والهتاف بحياة عبد الناصر " بالإكراه " يوميا أيضا ومنع الاتصال نهائيا
بالعالم الخارجي لمدة 8 شهور كاملة الا إن ما خبرته من السجون المصرية ( القناطر
وسجن مصر وسجن أسيوط في غرفة الإعدام أيضا ) يجعلني اكبر المتحمسين ضد
السجون المصرية .
علمت منذ بضعة سنوات إن سجين المخدرات يستطيع تأجير زنزانة - نعم تأجير !- بها
تلفزيون وسجادة وتأجير مسجون فقير ليقوم بتنظيفها له ( وما يلزم من خدمات ) وطُبق
هذا الإجراء على اللصوص الكبار مثل الريان والشريف .. الخ اصحاب البنوك الإسلامية
الذين سرقوا أموال الغلابة .
في سجن الواحات بدأت علاقتي بالكتابة .
تعرفت في السجن على كمال القلش الذي كان " يسكن حسب التعبير السجوني " معي في
زنزانتي . الحقيقة أتيت أنا إلى زنزانته بعد صدور الحكم . كان في الزنزانة أيضا شريف
حتاتة الذي كتب بعد ذلك " العين ذات الجفن الحديدة " عن السجن أيضا . عرفني كمال
على صنع لله . كنت تعرفت على عبد الحكيم قاسم من القضية التي شاركني فيها وفي
سجن إسكندرية حيث وجدته شخصا بالغ اللطف والدماثة والحساسية و قمت بتعريف حكيم
- كما كنا نسميه - إلى صنع لله وكمال . كونا شلة بالصدفة وليس بالقصد لكنا بعد ذلك
واصلنا لقائنا اليومي أو شبه اليومي بالقرب من سور السجن نفكر في المستقبل ونخطط له
.10
قررنا أول ما قررنا ا الذهاب للسد العالي والكتابة عنه . بالفعل ذهبنا عدا حكيم لسباب لا
اتذكرها الآن وأصدرنا " إنسان السد العالي "
لم يكتب كمال شيئا عن السد مع انه بدا الكتابة مبكر وأنهاها مبكرا أيضا في بحثه عن
المعايش أو كسله .
10 إثناء مراجعتي لهذا النص ( عام 2010 تذكرت أن صنع لله كان قد اصدر منذ سنوات قليلة كتابه " يوميات الواحات " وهو كتاب كما يقول في المقدمة أنها كتاباته
التي كان يكتبها في السجن وتم تهريبها ثم عثر عليها بعد ذلك . لا أذكر انه كتب عن هذه اللقاءات اليومية التي شكلّت اهم ما كنا نفكر فيه ونفعله ونخطط له ونحن في
السجن وبالتالي اهم ما فعلناه بعد السجن ، إذ نفذنا حلمنا بإصدار سلسلة "كتابات جديدة " التي كانت باكورتها تلك الرائحة ، ثم سافرنا إلى السد العالي وكتبنا "إنسان السد
العالي " وهناك كتب صنع لله مسودات رواية "نجمة أغسطس " وانا مسودات مسرحية "النفق "
اتصلت بكمال منذ أيام ( مارس 2002 ) اطمئن على صحته بعد إن عرفت انه يناضل من
. اجل الحصول على موافقة الدولة على علاجه في عملية باي باس لقلبه العليل في لندن 11
قال لي انه بدأ يكتب من جديد عن ذكرياته مع أهله في مدينة طنطا . قلت له إني اكتب (
هذا ) واني قلت رأ ي في ناس كثيرين منهم محمود العالم ؛ احتج بشدة وقال إن العالم
صاحبه .. قلت له ضاحكا هذه مشكلته فهو مجامل ويضع الصحوبية في مكانة اهم من
الكتابة .
أنا اعتقد إن الكتابة في حد ذاتها مبرر هام للوجود لشخص الكاتب وإنها بالتالي تنفي وتلغي
ما عداها . وبغض النظر عن " شرف الكلمة " و" الالتزام " وخلافه فإن العلاقة التي
يؤسسها الواحد بين ما يعبر عنه إن كان نثرا أو شعرا أو رسما أو موسيقى .. وبين
نفسه الخاصة الداخلية اهم بكثير من " المجاملات الاجتماعية " مهما كانت ضرورية أو
حتى صادقة .
من هنا جاءت كتابتي عن " الجنس " في السجن السياسي وهو واحد من المواضيع
المحرمة خاصة على الكاتب اليساري ؛ لإحساسي البالغ بضرورة هذه الكتابة ولاعتقادي إن
ليس بها ( أو في الفعل ) ما يشين .
لا حظت بأسى بالغ تحرج جميع منظمات حقوق الإنسان في مصر ( عدا واحدة ) عن
التصدي لقضية ما أطلق عليها " قوم لوط " عن متهمين بمزاولة الجنس المثلي وبالتالي
لم يتصدى كاتب ما لهذه القضية سوى بالطبع من هاجموا أفرادها حتى قبل إن يصدر
القاضي حكمه . بالرغم عدم وجود نص صريح في القانون الجنائي المصري بتأثيم الجنس
المثلي بين البالغين في حالة موافقة الطرفين .
وهكذا اصدر القاضي حكمه مستندا على مادة أخرى هي " تحقير الأديان " !
هذه واحدة من المشاكل الحساسة العديدة التي يواجهها الكاتب العربي .
الموت وقلب كمال القلش
أبريل 2002
عرفت من سعد هجرس إن كمال القلش حصل على علاج على نفقة الدولة (
المصرية ) في مشتشفى " لندن بريدج " في لندن . أخبرني سعد انه سيسافر مع
كمال من القاهرة وسيبقى معه بضعة أيام في لندن ، خاصة إن كمال لا يعرف
الانجليزية ، وان الدولة لم تسمح له بنفقات "مرافق "
وافقنا إن التحق بهما في لندن خاصة إن حفلة عيد ميلادي الخامس والستين
ستكون في 13 أبريل بعد إن أجلناها أكثر من مرة .
جاء 13 ابريل وكان يوم المظاهرة الكبيرة في امستردام للتضامن مع الشعب
الفلسطيني وخاصة في مخيم جنين . قررنا أنا وزوجتي إن نذهب للمظاهرة .
سالت ديدي ( ديدريك ) ابني إن كان يرغب في الاشتراك معنا . سألني ضد من
ستكون المظاهرة . قلت " ضد شارون " فوافق وقال انه يريد إن يطلب من
حسني صديقه المغربي إن يأتي معه ( كلاهما في الثانية عشر ) هكذا ذهبنا إلى
11 حصل كمال على مبلغ محدود جراء العملية بدون مرافق . سافر معه صديقه وزميله مدير تحري العالم اليوم سعد هجرس ، والتحقت أنا به من امستردام . وعندما
كان كمال في طور النقاهة قدم لنا حسام ابراهيم سعد الدين الطبي المقيم في لندن شقة خالية لكي نعيش فيها كلانا حوالي أسبوعين
المظاهرة أنا والولدين مبكرين . يارا رفضت الاشتراك وتحججت بأنها تريد
إن تذهب إلى المكتبة العامة . قالت زوجتي أنها سألتحق بنا . اتفقنا على اللقاء في
" دام سكوير " وهو مكان انطلاق المظاهرة .
بدون الدخول في تفاصيل كثيرة ، انزعجت من اتجاه المظاهرة الإسلامي فقد
انتشرت بها شعارات إسلامية مثل " لا إله إلا لله والشهيد حبيب لله " و "
خيبر خيبر يا يهود .. جيش محمد سوف يعود " 12 الخ . قررت الانسحاب من
المظاهرة بينما قالت زوجتي أنها ستواصل بعض الوقت خاصة إن الصغير الذي
لا يعرف العربية كان يريد الاستمرار.
في المساء أقمنا الحفلة في صالة صغيرة استأجرناها . بعدها بيومين سافرت إلى
لندن واتجهت مباشرة من المطار إلى المستشفى ، حيث كان كمال قد أُجريت له
الجراحة لكنه ما يزال في طور النقاهة البطيئة .
اخبرني سعد إن كمال عانى من أزمة تنفس ووضعوه في الرعاية المركزة وانه
كان يعاني من حالة توهان وعدوانية وانه هاجم الممرضات بسكين بدعوى
إنهن يحكن مؤامرة ضده .
الطبيب طمأننا أنها حالة تحدث أحيانا نتيجة للعملية ومضاعفاتها .
كنت اتفقت مع صادق الصائغ الشاعر العراقي لمقيم في لندن ، والذي تعرفنا عليه
أنا وكمال منذ أيام عملنا في العراق، إن يأوي كمال عنده في شقته الصغيرة في
مرحلة النقاهة . أنا وسعد عشنا في غرفة مستأجرة سهلتها لنا سعاد الجزائري
العراقية( طليقة صادق ) المقيمة في لندن أيضا والتي اعرفها منذ أيام بغداد.
نقلنا كمال من المستشفى لشقة الصائغ . قرر سعد إن العمل في الصحيفة (
العالم اليوم ) يتطلب وجوده في مصر . سافر وتركني مع كمال . لكني كنت أيضا
أريد العودة لأمستردام أواصل حياتي وكتاباتي . قررت البقاء يومين إضافيين . ثم
سافرت .
بعد وصولي بيومين اتصل بي الصائغ وأخبرني إن كمال انتقل مرة أخرى
لمستشفى حيث انه كان يعاني من إمساك شديد . انتقل بسيارة الإسعاف .
طلب مني صادق الحضور فوافقت غير متحمس. اتصل بي حسام ووعدني تغطية
تكاليف سفري وإقامتي في لندن ، حيث كنت بالفعل مفلسا ولا استطيع أن اطلب من
زوجتي أن تعطيني نقودا – للمرة الثانية – لكي أسافر إلى لندن . هكذا سافرت مرة
أخرى . كان حسام سعد الدين ( الطبيب المشهور ) والذي يعيش في لندن تبرع
بأن يعطينا أنا وكمال شقة صغيرة تخصه في حي راق بالقرب من شيلسيا ..
وهكذا للمرة الثانية توجهت مباشرة من المطار للمستشفى ونقلت كمال بتاكسي
إلى شقة حسام .
قلت لكمال إني سأبقى معه أسبوعا .
12 الحقيقة لا أعرف كيف "تنتقل " شعارات كهذه مليئة بالسخف والغباء من البلاد العربية إلى أوربا عبر البحار
كان من المفترض إن يلتقي كمال بالجراح الذي أجرى العملية ليقرر مدى
إمكانيته للسفر راجعا إلى مصر .
في لندن ، أقمت حوارات طويلة مع كمال حول الكتابة والمرض وحول
أصدقائنا المشتركين وأيضا حول الموت الذي لا حظت إن كمال يعيش في حالة
من الهلع بمواجهته .
تحدثنا عن أسرته أو بالتحديد البنتين . تزوجت الكبرى العام الماضي والصغيرة
التي لي معها علاقة جيدة وطريفة والولد ( أربعة عشر سنة ) حيث يعيش
الصغيران في بيت زوج الأم التي تزوجت ثانية بعد طلاقها من كمال منذ
حوالي 3 سنوات . فهمت من سعد إن الصغيرين منزعجان من الحياة مع زوج
الأم الذي ينق عليهما كثيرا ويتذمر من استخدامهما للتليفون ..الخ .
اعرف إن كمالا بخيل .. وطالما مازحته في هذا . هذه المرة انزعجت من طريقة
تفكيره ورؤيته للحياة ( والموت أيضا )
قال انه قرر إن يعيش مع إخوته البنات اثنتان عانس ( واحدة منهن تجاوزت
السبعين اكبر منه وهو الآن في السبعين )والثالثة أرملة . حجته إن البيت (
الذي يسميه البيت الكبير ) في الطابق الأرضي .شقته التي كان يعيش فيها في
الطابق الخامس وبدون مصعد . سألته لماذا لا يشترك مع السكان ويقيموا مصعدا
صغيرا . أجاب إن البعض وافق والبعض رفض . فلما سألته هل لا يستطيع إن
يدفع بعض النقود زيادة عن الآخرين ويرجع إلى شقته ويستدعي ابنه وابنته ،
لم أتلق إجابة شافية علما بأن ثمن المصعد كما قال لا يزيد عن 36 الف جنيه
مصري !
تفاصيل أخرى كثيرة أزعجتني في تصرفاته ومواجهته لحالته الجديدة . فقد
أحسست إن توقف عن القراءة الجادة ويضيع وقته في قراءة الصحف ومشاهدة
التلفزيون . كذلك انه يفضل الاعتماد على الآخرين في قضاء حوائجه البسيطة
مثل صنع الشاي وإعداد الإفطار السهل . يهتم كثيرا بالطعام ويرفض القيام باي
مجهود بالرغم من إن الطبيب شدد على المشي والحركة حتى يواصل القلب
مهامه بعد تغيير 3 شرايين . 13
اكتشفت إن تفكيري بالنسبة للحياة ومواصلتها وبالنسبة للموت ومواجهته مختلف
بشكل كبير عن موقف كمال . فقد أحسست انه يريد الالتجاء إلى الدين مرة
أخرى . قلت له إني باق على موقفي العقلاني واني لن التجأ للدين خوفا من
النهاية وتحسبا للمجهول . لكني طمأنته بأنه له الحق في إن يؤمن أو لا يؤمن
طالما انه مرتاح لقراره .
كنت أفكر حينما اختلي بنفسي ، في النهاية المرتقبة لنا جميعا . فكمال يكبرني
بخمس سنوات فقط وأعرفه منذ بداية الستينات حينما تعرفت عليه في معتقل
13 في مصر إثناء زيارات الشتوية ، اختلفت أكثر من مرة مع كمال حول رؤية كل منا لمفهوم الصداقة والالتزام . لعلي كنت متجنيا عليه
، فكمال آزرني بقوة عند تخلي معظم "الاصدقاء " عني بعد زيارتي لإسرائيل – فلسطين ،بما فيهم صنع لله.
الواحات حيث " سكنا " في زنزانة واحدة . ثم ذهبنا إلى أسوان مع صنع لله
وكتبنا كتاب " إنسان السد العالي " وواصلنا التقائنا في بلاد مختلفة : العراق
والمانيا . ثم عمل هو في الكويت بعد إن تزوج ورجع للقاهرة وحصل على
الشقة التي أشرت إليها وأنجب ثم طلق وأحيل للتقاعد ويعمل الآن في " العالم
اليوم "وقد كف عن الكتابة بعد إن نشر رواية قصيرة وجيدة هي " صدمة طائر
غريب " ومجموعة قصصية " الصندوق " بينما واصل صنع لله الكتابة لم
يتوقف عنها ابدا . توقفت أنا لفترة عشر سنوات ثم واصلت .
لقد تزوجنا ثلاثتنا مثل ملايين البشر وتقلب بنا الزمن . احس إن السنوات الأخيرة
، سنوات ما قبيل الرحيل قد أثرّت فينا جميعا بأشكال مختلفة .
كتاب مع " أبو زيد " 14
في العام الماضي اقترحت على صديقي الناشر الهولندي كتابا على صيغة
حوارات طويلة مع الدكتور نصر حامد أبو زيد
الناشر يمتلك دار نشر صغيرة اسمها " بولاك " ( بولاق ) ومتخصصة في الأدب
والثقافة العربية . نشر من قبل ترجمة " أيام الإنسان السبعة " لعبد الحكيم قاسم
وكذلك الترجمة الهولندية الكاملة للألف ليلة وليلة في خمسة أجزاء وعرفت أنها
في طبعتها الرابعة .
فكرة كتابي تدور حول ما يراه الآخرون من غير المسلمين في الإسلام وفي
الإسلاميين المتعصبين .
وافق الناشر واتصلت بأبي زيد وأخبرته بلقائي مع الناشر ووافق أبو زيد إن
نلتقي مع الناشر .
وبدأت في الإعداد للكتاب واعطاني أبو زيد كتبه التي تدور حول " مفهوم النص
وتاريخيته " ودراساته الأخرى . قمت أيضا بقراءة ودراسات أخرى لكتاب
مختلفين مسلمين ومستشرقين . توصلت إن يكون الكتاب من محاور ثلاث :
الإسلام والحقوق . الإسلام والواجبات . الإسلام والآخر . المحور الأول يتعلق
بحقوق الإنسان في الدساتير " الإسلامية " كما في السودان وإيران وباكستان .
بالنسبة للواجبات تدور حول فريضة الجهاد أساسا وتفسيراتها المختلفة . المحور
الثالث يتعلق برؤية الإسلام للآخر . التفسيرات المذهبية المختلفة , المرأة . أهل
الكتاب .
14 تعرفت على أبي زيد شخصيا حينما جئت مع فريق عمل من القناة الثالثة الهولندية لعمل فيلم تلفزيوني عنه بناء على اقتراحي . وقد
قامت السفارة الهولندية بالقاهرة بإتمام الإجراءات البيروقراطية المصرية والحصول على تصاريح التصوير وخاصة داخل الجامعة (
جامعة القاهرة ) حيث كان أبو زيد يدرّس هناك.
ولعل اهتمام هولندا كدولة بأبي زيد جاء من هذا الفيلم الذي لا قي قبولا من الإدارة الهولندية أيامها وساهم بشكل كبير في إعطائه تأشيرة
عاجلة لدخول هولندا وتعيينه كأستاذ زائر في جامعة لايدن مشرفا على طلاب الدكتوراه.
يقول زين العابدين فؤاد ( الشاعر وهو بلديات أبو زيد وجابر عصفور ) انه هو الذي سعة لدى السفارة الهولندية لاستقبال أبي زيد في هولندا
.. لكنه لم يعلن لماذا اختار سفارة هولندا وليست غيرها من الدول الغربية (!)
في البداية قررنا إجراء حوارات مطولة بدون الدخول في مسائل لاهوتية وفقهية
. كذلك لم نتوصل إلى " شكل " الكتاب وطريقة عرضه . هل تكون أسئلة
وأجوبة ؟ أم تكون أسئلة في بداية كل محور مع عرض وجهات نظري ثم اترك
بقية المحور أو الفصل لأبي زيد يرد ثم اعلق أنا من جديد ؟
جوكا بوبينغا التي تقوم بالترجمة وتحرير الكتاب اقترحت إن أقوم بكتابة مقدمة
طويلة اعرض فيها فكرة الكتاب وأورد حججي التي سيرد عليها أبو زيد .. وبالفعل
قمت بكتابة ما هو مطلوب مني .
خلال تفريغي للأشرطة المسجل بها الحوار كنت اكتشف " ثغرات " في إجابات
أبو زيد وأشياء من الأهمية تفسيرها وشرحها مثل " الثقافة الإسلامية ،
والحضارة العربية والإسلامية .. " الخ وكنت أرسل هذه لأسئلة بالبريد
الالكتروني لأبي زيد .
أحيانا كان يهتم بالرد وأحيانا - نتيجة لمشغولياته المختلفة والمتعددة - كان لا
يقرأ الرسائل.
هكذا سار العمل في الكتاب ببطء .
كنت قد طلبت من خلال الناشر دعما ماليا من " اتحاد الكتاب والصحافيين
الهولنديين " خاصة وان الناشر الصغير لا يستطيع دفع مقدمة مالية لي أو لأبي
زيد . اتفقنا على حصص مالية لكل من المترجمة وأبي زيد .
الإعداد استهلك مني وقتا طويلا لكني استفدت كثيرا بقراءاتي المختلفة . خاصة
إني كنت أقوم بأبحاث استعدادا لكتابة رواية عن الغزو العربي الإسلامي لمصر
القبطية الرومانية في القرن السابع .
..ما الذي حمسني لهذه الرواية ( التي لم تكتمل حتى الآن مثل غيرها !) كنت قد
عرفت إن قسما من عائلة والدتي قد تحول إلى الإسلام ( لا اعرف متى )
وان القسمين يعيشان متجاورين في قرية تندا ( طندا كما تكتب قديما ) ومع
إني قررت السفر والتعرف على القسمين المختلفين الا إن مشاغلي كثيرة حالت
بيني وبين ذلك.
فكرة الرواية تدور حول مرحلة محددة في تاريخ مصر حينما قرر هذا الجزء من
أسرة والدتي إن يعلن إسلامه وان يدخل في دين الغزاة وبينما قرر الجزء الآخر
البقاء على دينه .
من بين الدراسات الهامة كان كتاب " بتلر " المعنون " فتح العرب لمصر "
ترجمة محمد فريد أبو حديد .. ترجمة قوية وجميلة .
بالإضافة لكتب من سلسلة تاريخ المصريين للأستاذة سيدة إسماعيل الكاشف
أستاذة التاريخ الإسلامي وغيرها ..
من الملاحظات التي أبداها كمال ونحن في لندن ما معناه إني أتصدى لقضايا
ليس هذا وقتها وبتعبيره " قضايا صدامية " وكان يقصد أيضا رحلتي إلى
فلسطين - إسرائيل وكتابي عنها " في انتظار المخلص " و كما يبدو وكما قال انه
انزعج كثيرا حينما قلت له إني اكتب الآن ( هذه المذكرات ) واني أشرت فيها
إلى محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وموقف العالم مني شخصيا بالنسبة
لمسرحية النفق . طلب مني إن أراجع موقفي لأن العالم صديقه كما قال . أكد إن
صنع لله كتب مقالا في مجلة " اخبار الأدب " يحي فيها العالم بمناسبة عيد
ميلاده الثمانين . ضحكت أنا وذكرتّه بموقف العالم بالنسبة لروايات صنع لله
الثلاث الأولى التي كتب عنها دراسة بعنوان " ثلاثية الرفض والهزيمة "
ازعجت صنع لله كثيرا وقال لي إن العالم كتب هذا الكتاب ردا على موقف
صنع لله وعبد الحكيم قاسم منه في مؤتمر ما في المغرب منذ سنوات طويلة
حينما هاجما اسلوبه النقدي .
قلت لكمال إني لن اتخلى عن ما كتبته أو عن رأي في العالم بالرغم من ما
يراه كمال .
تناقشنا في لندن ، أيضا حول الحركة الشيوعية المصرية وتجربة كل منها فيها ،
خاصة إن حسام سعد الدين كان قد شارك بشكل نشط وفعال في الحزب الجديد
بعد حل الحزب القديم . اشترك معنا في الحوار طبيب آخر هو حازم احمد
الرفاعي ، الذي كما يبدو من اسمه أنه ، ابن احمد الرفاعي احد من قادة حدتو .
واحدة من ملاحظاتي التي لم تلق القبول، هي إن مؤسسي واعضاء الحركة
الشيوعية المصرية من الحرس القديم بالرغم من تضحياتهم الجسيمة التي
وصلت إلى الموت ، فإن عدم معرفتهم بلغة أجنبية جعلهم أسرى الترجمات
الخاطئة والمشوهة ( عدا قلة من أولاد الطبقات الميسرة التي تعلمت في مدارس
خاصة وأجنبية )
هكذا أجد نفسي - كلما تقدم العمر بي - خارج السرب !
يقودنا هذا مرة أخرى للكتاب مع أبي زيد ..
فأنا مع فصل الدين عن الدولة .. كل الأديان . باعتبار إن الدين ينظر إليه
المؤمنون به كشيء مقدس ولا يقبل النقاش ، وأن الدولة جهاز بشري ، والبشر
فاسدون بطبعهم ولا بد من خضوعهم للمحاسبة حتى لا يستشري فسادهم .
ثانيا : إن النص الديني الذي مضت عليه الآن قرون طويلة ، يجب النظر إليه
- مع الاحترام والتبجيل له - من تاريخيته : أي من أسباب نزوله ومن الناسخ
والمنسوخ من الآيات .
فالتوراة كما نعلم لم تكتب الا إبان السبي البابلي الثاني .كانت نصوصا شفاهية
يتناقلها الكهان و.كتابتها كانت حوالي 400 قبل الميلاد .
كما إني أرى خطأ وخطورة دمج التوراة الموسوية اليهودية بأساطيرها وتحيزاتها
العرقية مع " الأناجيل والرسائل " المسيحية والتي اعتمدت ما اجتمع عليه
معلمو الشريعة اليهود حوالي عام سبعين ميلادية من " قانونية " العهد القديم
التوراتي" وتبنت " المسيحية " هذا التقنين .
بينما تعود كتابات العهد الجديد إلى النصف الثاني من القرن الأول الميلادي حيث
دُونت باللغة اليونانية وهي التي كانت شائعة آنذاك في حوض المتوسط و"تأسس"
الكتاب المقدس على مراحل إثناء الاجتماعات الكنسية الأوربية ، والاتفاق على أي
من النصوص يجب وضعها وأي يجب حذفها . ( ولمن يريد المزيد عليه أن يرجه إلى
اجتماع خلقودنية في القرن الرابع الميلادي ) حيث بدا برسائل بولس ثم رسائل
بطرس ثم الأناجيل ثم سفر أعمال الرسل . وبعدها الأناجيل ، رغم إن الأناجيل هي
مفتتح "العهد الجديد" . وجاء هذا نتيجة لنقاشات بين الكنائس توسع العهد الجديد
وتمت قبول رسائل أخرى ( المرجع : مقدمة الكتاب المقدس - الناشر جمعية
الكتاب المقدس في لبنان - الإصدار الثاني 1995 الطبعة الأولى ) وقد تم عزل
أكثر من إنجيل ورسالة بواسطة " واضعي " الكتاب المقدس .
هدفي من هذه المداخلة هو تأكيد مقولتي عن الابتعاد ب" الدين " عن الدولة .
وهذا هو هدف مداخلتي أيضا مع أبي زيد الذي لا يعترض عليها ولكن هناك
محاذير كثيرة يحاول أن يتجنبها هي التخويف الذي يشيعه المتعصبون من الأديان
جميعها ، بالنسبة إلى عدم الاقتراب من الدين إلا بهدف تبجيله وتقديسه !
حفزني أكثر على المضي في " الكتاب " جريمة سبتمبر في نيو يورك وما تلاها
من عداء وكراهية متبادلة بين المسيحيين والمسلمين ( وماذا عن اليهود
والإسرائيليين الذين ركبوا موجة بوش في ما أطلق عليه الحرب ضد إلا رهاب
( وقتلوا الفلسطينين كعقاب جماعي ؟ 1
حفزني أكثر إن الكتاب سينشر أولا بالهولندية .. وسأجعل ابنتي وابني يقرؤونه
لكي يتعرفوا أساسا على الإسلام كما هو وليس بتفسيرات المتعصبين ( وكذا
المسيحية واليهودية ) كذا لتبينوا موقفي من قضايا العصر وأكثرها أهمية .
لا أعرف حتى الآن إمكانية نشر الكتاب بالعربية . 15
15 نتيجة خلاف بيني وابن أبي زيد لم استطع نشر الكتاب في هولندا بالهولندية .نشرته منذ سنوات عشر ، في المغرب بعنوان "الإسلام
لابني " وأفكر الآن في إعادة نشره في مصر بعد مضي أكثر من خمسة عشر سنة على إعداد الكتاب. كما توقفت عن لقاء آبي زيد أو
الحديث معه.
الرحيل والبقاء في هولندا من اعوام 1997 وما تلاها
خلال "رحلة " حياتي في البحث عن الحب والاستقرار والعمل ( على انواعهم المختلفة ) بدأت استقر في هولندا
تدريجيا لكن بدون حماس في البداية .فقد تعرفت على هذه السيدة التي أصبحت زوجتي فيما بعد وهي هولندية ،
وأنجبنا بنتا وولد ( يارا و ديدريك ) وخلال ذلك كنت ازن محاسن وعواقب هذا الالتزام المتأخر في حياتي
..كنت ايامها انهي اربعينياتي وفقدت غرامي بالغرب ولست معنيا بالإقامة فيه طوال "ما تبقى من حياتي "
لكن لا تدر نفس بأي أرض تعيش وتموت ..هكذا وجدتني استقر تدريجيا في هولندا .
شقتنا الأولى كانت لا بأس بها ومريحة لكن في اطراف امستردام في حي من احياء المهاجرين "السود " من
سورينام وإفريقيا . انتقلنا منها إلى حي رخيص آخر هو أيضا يتمركز فيه المهاجرون العرب خاصة المغاربة الذين
يشكلون النسبة الأكبر من المهاجرين 16
كان بيتا قديما له أكثر من مائة سنة وأجزاء كثيرة منه مبناة من الخشب الذي تحبه الفئران (!) وبقينا به سنوات
حتى اصابتي بأول أزمة قلبية هناك . وكنا نسكن في الطابقين الثالث والرابع ( 67 درجة من السلالم حتى الثالث
..عددتها ) لكني استطعت إقناع زوجتي أن نبحث لنا عن بيت صغير بحديقة ..وبالفعل وجدنا بيتنا ( هذا ) ونقيم
( فيه من أكثر من ثلاث سنوات( الآن سنة 2010
ورغم أن ولدينا غادرنا وسكنا بمفرده كل على التوالي ، فلم نشعر بوحدة في البيت الذي يأتيان إليه
باعتبارهما من السكان " الأصليين " حيث أن كلاهما يحتفظ بمفتاحه !
في بيتنا الثاني بدأت وأنهيت بيضة النعامة ثم " صانعة المطر " ومزاج التماسيح .. كانت بيضة النعامة هي التي
استنفذت مني الجهد الأكبر "حوالي اثنتي عشر سنة كتابة متقطعة " .
كما كتبت فيه "الإسلام لابني " وكتاب "السودان قرون من القهر وستون عاما من الحنين " وكذا كتاب الرحلة
إلى فلسطين –إسرائيل "في انتظار المخلص " "
في بيتنا الأخير كتبت غواية الوصال ثم ايثاكا وأخيرا " شاتنج "
16 السبب في ذلك سبب تاريخي. فقد جلبت هولندا ألاف العمال المغاربة لبناء البلد المتهدم ( بيوت وشوارع ومزارع ومصانع ..الخ)
عقب الحرب. لم يكن احد يتخيل مواصلة بقائهم بعد أن انتهت مهماتهم. بقوا وجلبوا عائلاتهم وزوجاتهم وأقاربهم ؛ حتى أصبحوا مشكلة
تؤرق اليمين الهولندي
بعض شخوص أعمالي
أولا :بيضة النعامة
لا أختلف عن معظم الكتاّب في استجلاب شخوصي الروائية والقصصية من الحياة ..حياتي
الخاصة أو من التقي في الحياة بشكل عام.
بعض شخوص بيضة النعامة مثل خيرتي وجوديث وعم ربيع المراكبي الاسوانلي كما معظم
شخوصها الأخرى هي من خزين ذاكرتي.
مدين أنا في بيضة النعامة لكل من لخيرتي وجوديث فلولاهما لما ذهبت إلى البر الغربي لمدينة
الأقصر ولما استقريت في فندق " هابو " ولما اكتشفت معبد " مدينة هابو " ولما ذهبت إلى نقادة
أصلا ..الخ بل ولعلي لما كتبت بيضة النعامة ؟!
لا أعرف ولست متأكدا من أن ( الروايات والأعمال الفنية الإبداعية بشكل عام ) هي اجنة
تنتظر الولادة عند المبدعين .
أقول لست واثقا من هذا وان كنت أؤمن بما يُسمى الدفة " المدبرة " وكلاهما على العكس من
بعضهما(!)
فتعرفي بخيرتي وجوديث حينما قدما إلى مصر في رحلة لهما تشبك العلم والبحث بالسياحة
..جاءت عن طريق سلسة من الصدف ( هل هناك صدفة بالفعل أم انه مرتب ترتيبا دقيقا) ؛ فقد
عرفتني بهما الملحقة الثقافية لسفارة هولندا آنذاك والتي عرفني بها صديق صحافي هولندي هو
"هارم بوتشيه " الذي تعرفت عليه عندما كنت أعمل في جاليري سفر خان بالزمالك العائد إلى
روكسان أرملة شهدي التي عرفني عليها صنع لله الذي تعرفت عليه في الواحات من خلال
القلش الذي كان يقيم في زنزانتي بالواحات ..الخ ..الخ .. هذه سلسلة متواصلة الحلقات ومحكمة
!
كنت - كما قلت في العديد من اللقاءات الصحافية - اني قدمت إلى مصر بعد غيبة 12 سنة
متواصلة .. ولم أكن انوي الإياب إلا بعد أن أصبح سقوط بيروت الغربية في ايدي الجيش
الإسرائيلي أمرا حتميا ؛ فقررت الخروج من لبنان متبعا حدسي الداخلي بأن لا أتوه مع
الفلسطينيين في منافيهم لسببين : أن لي وطنا حتى ولو لم أكن " أحبه " ثانيا أني أؤيد
الفلسطينيين لكن لا أعمل "عندهم أو معهم " أي أن تكون لقمة عيشي حرة القرار . وطوال
إقامتي بالخارج لم اقبض "فلسا " واحدا من الفلسطينيين لا من مجلاتهم أو أي من "مكاتبهم
وأنشطتهم " بالرغم من تأييدي لهم قلبا وقالبا وبكثير من الانتقاد المتواصل ابدا .
هكذا قفلت عائدا إلى مصر محبطا ومهزوما بشكل شخصي ؛ مضطرا العودة إلى "مكان " ليس
لي فيه اهل كثيرين أو أصدقاء أيضا .. لكن لا مفر من العودة إليه.
ثم كرت السلسة التي اشرت إليها لأجد نفسي مع الفتاتين في سيارتهما اللاند روفر نتجه إلى
الصعيد إلى الأقصر بالتحديد حيث ترسم خيرتي لوحاتها مستوحية الفن الفرعوني وتقوم جوديث
بدراستها عن " آثار البحر المتوسط "
في غرفتي الصغيرة بفندق "مدينة هابو " كتبت السطور الأولى لبيضة النعامة وواصلت كتابتها
حتى قبل أسابيع من نشرها أي حتى عام 1994 – رياض الريس .
المشهد الطقسي في المعبد " استوحيته " من معبد هابو ومن معماره مع بعض التطويرات
والتحويرات ..وطبعا تكون البنتان في الطقس هما جوديث وخيرتي .
الرحلة إلى جبل مرة قمت بها مع آخرين غير "مسيحة " الذي ذكرته في الرحلة . ومسيحة
ليس سوى صديق طفولتي صبحي داوود الذي هاجر من السودان إلى استراليا والتقيته هناك بعد
سنوات من قطع الاتصال وضحكنا كثيرا على تصويري له في النص، خاصة أن النصوص
الأولى كان بها خطأ لوجستيكيا هو اني ذكرته مرات باسم مسيحة ومرات باسم صبحي !
كنت بعد سنوات من التوقف المتعمد عن الكتابة - سوى بعض القصص القصيرة أو مسرحيتين
في بغداد - أي معظم ألاثنتي عشر سنة خارج مصر .. لا أعرف كيف اكتب بنفس طويل .. لذا
كانت السنوات الأولى في كتابة البيضة صعبة للغاية إذ كثيرا ما توقفت يائسا وحائرا ومحبطا
معتقدا بصدق ، بان ما أكتبه ليس سوى تفاهة من التفاهات المضافة إلى التفاهات الموجودة .
في السنوات التي تلت ذلك بدأت استقر بعض الشيء في هولندا ولم يكن عندي كمبيوتر ولا
اعرف بوجود شيء اسمه بريد الكتروني ..الخ لذا كنت أحمل معي كراريسي التي اكتب فيها
بيضة النعامة ، ذهابا وإيابا القاهرة امستردام ، وأعطيها لصنع لله وكمال القلش للقراءة
والنصح . حتى اشترت زوجتي لي كمبيوتر وركبت عليه برنامجا اسمه " النافذة " وهو
الاستنساخ العربي من ويندوز ..
ثم بدأت أطبع ما اكتب ..على طابعة يملكها صديق هولندي !
في البروفة قبل الأخيرة أعطيت ما كتبت لفاطمة الطناني ( التي رسمت لي بعد ذلك
بضعة أغلفة لكتبي ) فنصحتني بأن أزيد كثيرا في الكتابة عن السجن ..وقد فعلت.
ولم أكن اعرف رياض الريس ..ولم أكن واثقا أن ناشرا مصريا - آنذاك - يجرؤ على
نشرها لما فيها من حديث عن المسيحيين والسجون والجنس فنصحني صنع لله بإرسالها إلى
رياض الريس بعد أن قال لي انه اخبر الريس بأني "كاتب واعد " !
..وقد فعلت ..وقد نشرها ( دفع لي خمسماية دولار عن خمسة آلاف نسخة ..أولا عن
آخر !) أما مدبولي حينما أعاد طبعها فقد دفع لي ألف جنيه على أقساط طويلة الأمد .. بعد
ذلك وقبل ذلك كنت، ادفع من جيبي وانشر على حسابي .. بل اني نشرت " غواية الوصال "
من دار نشر وهمية الفتها ووضعت عنواني لها في امستردام .. ثم نشرتها مرة ثانية أيضا على
حسابي من دار نشر صغيرة قاهرية .
والحقيقة التي أعيد ذكرها هي أن زوجتي أنا ماريكا – نتيجة اتفاق واضح ومسبق ودائم- تكفلت
بحياتي ومصاريفي في هولندا ..جعلتني شبه متفرغ للكتابة ولست في "حوجة " للخبط على
البيبان.
مرة قليت عقلي وطلبت منحة من الدكتور جابر عصفور حينما كان رئيسا للمجلس الأعلى
للثقافة فقال أن الصعوبة في الحصول عليها هو اني لا أقيم في مصر ..لكن الرجل حاول مع
فاروق حسني وزير الثقافة ولم أحصل على المنحة .
مرة وحيدة أخرى قليت عقلي ثانية واشتركت في مسابقة للرواية في عمان .. ..أظن ذلك كان
عام 2006 أو 7 ..ولم افز( بالطبع ) رغم اني اشتركت بغواية الوصال وقدمت ببيضة النعامة
ومزاج التماسيح كوثائق طلبوها إثباتا اني كاتب !
بعد ذلك عرفت وآمنت أن المؤسسة ( مؤسسة الجوائز ومؤسسة الحزب ومؤسسة مكارم
الأخلاق ) التي تمردت وواصلت التمرد عليها – من زمن طويل وبقيت خارجها - لن
تعطيني جائزة ما .. لن تعترف بي ( رغم اني لم اعترف بها ..لكن قلة عقل مني وبلاهة أيضا )
وهكذا لم أقدم نفسي إلى العويس ورفضت أن يقدمني ناشر مصري أو عربي إلى جائزة ..مما
أعطاني " صلاحية ومصداقية " في الحديث عن الجوائز وانتقادها مثلما افعل الآن مع الجائزة
المشوهة والمسماة بوكر العربية ( لكن هذا حديث آخر !)
وبالفعل .. فقد سافرت إلى جبل مرّه ( كتبت عنه في بيضة النعامة ) منذ حوالي 23 سنة .. اذكر
ذلك جيدا لأن سفري كان له علاقة بميلاد ابنتنا يارا عام 1977 ونتيجة للعلاقة الخاصة
والحساسة مع زوجتي وقتها وأم الطفلة فلم استطع السفر إلى هولندا لحضور لحظة الميلاد ،
وعرض عليّ بعض الأصدقاء الهولنديين السفر معهم إلى الفاشر ومنطقة دارفور وجبل مرة
فرحبت كثيرا .ودفعوا تكاليف رحلتي مقدما .
بعض ما حدث هناك حقيقي والبعض من مخيلتي أو سمعت به . كان السفر كما ذكرت في
النص بالباصات وممتعا .. الرحلة كلها كانت ذات طبيعة خاصة .. لذا حينما دارت الحرب في
دارفور مؤخرا ، تابعتها بحزن لأني اعلم هذه الأماكن وقد أكلت وشربت وتحادثت مع الأهالي
هناك .
الحرب السودانية الاهلية جريمة ترتكبها حكومات السودان المتعاقبة بعد الاستقلال . ما حدث
بهذه الحروب ا من جرائم تلتف في رقبة حكام الخرطوم وعلى رأسهم عمر بشير وعصابته .
هكذا تتغير معالم مدنا وبوادي وأماكن ويختفي أناسها .. بينما أنا مقيم في امستردام منذ أكثر
من عشرين سنة ؛ فإن معالم المدينة ثابتة كما هي منذ رايتها للمرة الأولى . حتى القاهرة تتغير
معالمها وهي مدينة أقدم من أمستردام . فالتغير في المدن والأماكن ليس صفة من صفات التطور
لكنه دلالة على عدم استقرار وقلق .تأمل نيل القاهرة الذي تتغير معالمه وجزره ويسرق الأغنياء
مناظره يستمتعون بها من داخل مساكنهم التى لا يقيمون بها إلا لماما ..مساكن تبنى على
شواطئه وجزره ، ويطردون ساكنيها الأصليين من الصيادين والفقراء.
مزاج التماسيح
ثمة بلدة صغيرة في الدلتا هي شبراخيت ويقال أن عسكر نابليون أقام هناك بعض الوقت لذا
تميزت بناتها ونسائها بحسن رائق وبشرة صافية وعيون "ملونة " أحيانا . إلى هذه البلدة
انتقل والدي وكان في سنوات صحته الأخيرة من كنيسة قرية نواي – مركز ملوي إلى كنيسة
شبراخيت ..حيث مرض هناك مرضه الأخير ومات بالقاهرة .
كنت ايامها ما أزال أتعثر في دراستي السنوية في اسيوط ( في القسم الداخلي ) . ومن اسيوط إلى
شبراخيت سافرت لأقضي أسخف وأفظع إجازة صيفية لي . بيتنا كان قديما متهرئ السقف تقيم
بسقفه ثعابين ( هكذا أكد شكوكنا الجيران ) كنا نسمع فحيحهم في الليالي والعصارى الهادئة .
لكن من خفف عليّ شبراخيت فتاة لا أعرف اسمها ولم أخاطبها ولا مرة . كانت تتكئ "منتظرة
" على حافة إفريز نافذتها في الطابق الأرضي . خطفت عيناها الخضرواتين قلبي وعقلي
وجسدي. كانت ركبتاي ترتعشان عند رؤيتها ..وبعد سنوات طوال جعلتها ابنة القسيس في مزاج
التماسيح وجعلت مني أنا " الولد " الذي تعشقه وتهبه جسدها ( أحلام يقظة بالطبع ) لكني
فشيت غيظي من شبراخيت وأنا اكتب عن هذه المدينة في النص كما أن اسم رونسيه في
النص هو الاسم الأصلي لشقيقتي التي طالما رددناه ساخرين نحن الأولاد لنعرف بعد الإلحاح في
السؤال أن آمي كانت لها صديقة زوجة قاضي ( في السودان ) وكان اسمها رونسي ( وهو
كما قيل لنا اسم وردة بالفرنسية !)
الجنرال ؛ جلبته من شخصية الفريق أول هلال عبد لله هلال الذي كان يحكمنا في اسكندرية
في محكمته العسكرية الناصرية ..وجهه الأحمر وعنجهيته " التركية " ..
وسأمر بعد سنوات بالقرب من نادي الجزيرة في الزمالك لأجد لافتة قماشية كبيرة تطالب
بانتخاب الفريق أول هلال عبد لله هلال لمجلس الإدارة .
كان هلال يقود فرقة عسكرية في منطقة سيناء .. وسرعان ما استسلم لإسرائيل دون موافقة
القيادة وبالتالي حينما قرر ناصر تقديم بعض أكباش الفداء ..كان هلال منهم وقد حكمت عليه
محكمة عسكرية بالطرد من الجيش والسجن .. لعل السادات رد إليه اعتباره .. فهو ما يزال
ايامها كان يواصل استخدم رتبه العسكرية أو كان يخدع الناس كعادة معظم العسكريين الذين
يواصلون استخدام رتبهم حتى بعد المعاش !
الضابط المسيحي في مزاج التماسيح ..كان ضابطا شرطيا مسيحيا في مدني يتردد أحيانا على
كنيستنا اسم عائلته "سدرة " .. اتذكر أن والدي أرسلني إليه وأنا في العاشرة تقريبا ، إلى
مكتبه لسبب لا اذكره الآن . دخلت عليه متهيبا وهو جالس بثيابه العسكرية البيضاء ونجومه
اللامعة وعسكري مراسلة سوداني يدق الأرض بكعب جزمته الحديدي.
وهناك أخت القمص في النص واستجلبت آمي واسمها تفيدة وسميتها باسمها ورسمت تصوري
لها الجسدي من خلال معرفتي بجسد آمي وشكلها .
ثم زكي مراد الشيوعي النوبي المحامي الذي كتبته في الفصل الأ خير انهي الرواية به وأشرت
إلى أن قريته اسمها الجنينة والشباك وهذا ما اعتقد انه الإسم الحقيقي لقرية زكي مراد.
كمال القلش
كان اليوشا - كما كنت أحب أن اسميه – كاتب محكمة ، في حياته قبل الاعتقال الطويل الذي
قضاه . فهو لم ينهي دراسته في كلية الحقوق ابدأ .. لكنه لسبب غامض استطاع أن يحصل
على هذه الوظيفة ( الغريبة ) .
لم أكن اعرفه أو رأيته قبل الواحات..حيث كان يقضي عقوبة ثمان سنوات سجن . قصير
القامة مدكوكها يضع على وجهه دائما نظارات طبية .
ترافقنا منذ أن أقمنا في زنزانة واحدة في معتقل الواحات من عام 62 وحتى شهور موته
الأخيرة في عام 2003 ( على ما اعتقد ) وهو يقارب السبعين .. اختلفنا كثيرا ووصلنا مرة إلى
حد القطيعة .. لكن مع طعننا في العمر وطعن العمر فينا استقرت أحوالنا وتواصلت علاقتنا
بهدوء ..مع بعض العواصف القليلة ,
وقد ذكرته بمودة ومعابثة في مزاج التماسيح واصفا أحواله وأسميته " القلاّش " وكان
يضحك حينما يقرأ ما كتبته عنه .
هو قاريّء الأول لمعظم ما كتبت واستمعت إلى نصحه الذي أفادني كثيرا 17 ..كما اني طلبت منه
أن يكتب مقدمة الطبعة المصرية لبيضة النعامة فكتبها بمهارة وذكاء كعادته .
هو حريص على النقود ..حرصه ناجم عن سنوات حبس طويلة تميزت بالشحة ..وعن اعمال
غير ثابتة ، حتى استطاع بدأبه أن يعمل بشكل ثابت في صحيفة الجمهورية ثم في " العالم اليوم
"
مغامر في الكتابة لكن غير مغامر في الحياة .. مثلي تزوج على كبر – كما يقولون – وبالتالي
وجد نفسه يسعى إلى الكويت خلف زوجته المدرسة واستطاع أن يجد عملا في الصحافة هناك
طوال مدة إعارتها ,
هو وفي لأصدقائه وله شبكة علاقات واسعة ومعقدة . حافظ على العلاقة مع مهندس السدود
والخزانات النهرية العظيم ابراهيم زكي قناوي حتى بعد خروجه على المعاش. كما انه لم
يغير ابدا من ولاءه لحزبه ورفاقه السابقين ولأصدقائه وخلانه .
انه قارئ نهم ومستوعب جيد.
نصه الروائي الوحيد " صدمة طائر غريب " كان سابقا لعصره .كما أن القلش لم يراكم
نصوصا على هذا النص ، وبالتالي لم يُعرف ككاتب روائي أو قاص..او حتى صحفي
" كبير" فهو اختار ركنه الآمن ومنه واصل الحياة ، التي قضى سنوات عمره الأخيرة وقد
كف عن الاستمتاع بكاس من الشراب وفضل بصحبة كتاب مثل الخيام. ما فبل عملية القلب
المفتوح حرمته من الكأس وأقعدته وقتا طويلا في المنزل للنقاهة .
17 قرأ كمال معظم إعمالي قبل طباعتها. له عين فاحصة مدققة ورؤى فنية عالية ومرهفة. المدهش انه استعاض بقراءة إعمالي وبعض
أعمال صنع لله ( الذي لم يكن يعط أحدا أعماله قبل النشر) بالكتابة الخاصة به ..أو هكذا أتصور!
بعد إلحاح مني ، كتب شذرات قصصية من سيرة حياته ونشرها في مجلة القاهرة التي يرأس
تحريرها صديقه القديم صلاح عيسى.. لكن الموت لم يمهله ليكملها.
أحلم به أحيانا - بعد موته- وهذه عادة عندي تنامت في السنوات ى الأخيرة أن احلم
بالأموات الذين أعرفهم .
احلم به كما عرفته باشا ضاحكا ودودا.
القاهرة أسوان ..رايح جاي
منذ الصغر وارتبطت أسوان في ذاكرتي برحلة مصر السودان رايح جاي . وبعد أن استقرت الأ
سرة في مصر وتمكنت من أن أصبح طالبا في جامعة القاهرة كنت اهرب من عائلتي المزعجة
المكدسة في شقة من غرفتين وصالة، واذهب إلى أسوان في عز الصيف بحجة زيارة خالي شاكر
والإقامة معه هناك اطول وقت ممكن . وبالطبع كان صيف أسوان رغم رعبه ارحم من كوابيس
العائلة !
كان خالي يعمل في حسابات السد العالي وترقى حتى أصبح مديرا عاما .. ثم تمت إحالته إلى
المعاش في السن القانونية بعد أن اكتمل بناء السد العالي .
ولمدة من الزمن وأنا مقيم في هولندا تمنيت أن اقضي وقتا طويلا في أسوان وان افتح بارا
اسميه " لسه شوية " وفاتحت اصدقائي الهولنديين بين الجد والهزار أن " يساهموا " في لكية
هذا البار ورحبوا هم أيضا بين الجد والهزار. بل وفاتحت يوسف فاخوري 18 ل" يمسك " البار
ووافق هو أيضا بين الجد والهزار ..
لماذا البار سألتني زوجتي ؟ فقلت لها اني أحب البارات وبالتالي أحب أن افتح بارا ..
بالطبع أصبح البار ولسه شوية في منطقة الهزار !
لكني أخذت أسرتي زوجتي والبنت والولد وأصدقائنا أكثر من مرة إلى أسوان.
المشهد الأخير من مزاج التماسيح يدور في أسوان التي أتخيلها .. أو التي انتقتها ذاكرتي من
ركام المدن وعملت لها ذاكرتي مونتاجها الخاص لتخلق لي أسواني أنا الخاصة بي .
فأنا عادة لا استحضر شخوصي " بطينها " كما يقول التعبير الدارج المصري ..اي كما هي بل
أهذبها وأعيد تخليقها باعتباري أنا أيضا أعمل خالقا لحسابي الخاص .. عندي !
أحب في أسوان جزرها الصغيرة المطروحة بين النيل وسمائه . فهناك أحب رائحة النخيل
والأرض والماء النيلي الصافي .
ومن جزيرة أسوان جاء محمد حمام المهندس الشيوعي المغني , تعرفت عليه في السجن وتصادقنا
ما بعد السجن وعاصرت صعوده وهبوطه وانهيار صحته والشهور قبيل وفاته . وهو نموذج
للشخص الذي يمتلك كل مقومات النجاح المادي والفني .. لكن "عطبا ما " بداخله مولود به
مثل ما يقول ميكانيكية السيارات " عيب فابريكة " ينخر في عظامه ويقوده من إحباط إلى آخر
على كافة المستويات الشخصية والفنية والإنسانية .. يؤدي به إلى الموت (!)
وهو ابن عمدة في غرب أسوان .. شخص رقيق دمث وديع لكن الحياة وسوء حظه مثل سوء
اختياراته ، ملأته بالمرارة.
كنا في لحظات الصفاء اخطط معه كيف احصل على بيت في الجزيرة ..حيث يأبى النوبيون
تأجير أو إسكان " مصاروة " لكن هذه الأمنية أيضا لم تتحقق
لكن هذه القاعدة تغيرت في السنوات الأخيرة فقد استأجرت شقة عام 2015 في جزيرة غرب
أسوان في بيت "مركبي " أسوان ( أو نوبي لا اعرف) عن طريق بعض الأصدقاء في أسوان
..وفهمت إن شيوع تأجير هذا النوع من الشقق جاء بسبب إن خواجة ما اقنع هذا المراكبي (
18 الأديب الاسوا ني الذي له كتابات رائدة لكنه اعتزل الحياة والعالم واكتفى بشقته الصغيرة في أسوان يتأمل منها العالم .
وأمثاله ) بان يوافقوا على إن يبني لنفسه شقة عصرية بكل مستلزماتها فوق البيت البسيط الذي
يقيمون فيه ويعطيهم حق الانتفاع بهذه الشقة طالما هو غير متواجد بها ويكون عدم التواجد هذا
احيانا عشرة شهور في السنة (!) وهكذا استأجرت الشقة اللطيفة التي تطل مباشرة على المعدية
وبها غرفتي نوم وصالتان كبيرتان ومطبخ معقول وحمام وبانيو أنيق ..الخ بمبلغ مأتي وخمسين
جنيها في الليلة هذا إذا اعتبرنا إن غرفة صغيرة بحمام داخلي في فندق نجمة واحدة في أسوان
يصل سعرها إلى اكثر من مائة جنيه !
وحينما قال لي زميلي الكاتب وصديقي ، يحي مختار ..ان الدولة سوف توزع على النوبيين
قطعا من الأرض في أبو سنبل الجديدة .. قلت له فلنبن لنا بيتا هناك .. لكن ذلك لم يحدث .
للنوبيين والحزب الشيوعي المصري تاريخ مشترك طويل ..ويرتبط بتاريخي أنا
الشخصي المتعلق ، بالنوبة القديمة ، والباخرة التي كانت تبحر ذهابا وإيابا بين مصر والسودان
عابرة "بلاد النوبة " قبل أن تغرقها مياه بحيرة ناصر.. لذا أصبح ارتباطي بالنوبيين " فرض
عين " لافكاك منه ولا ابغى له فكاكا !
يحي مختار زاملني في قسم الصحافة منذ اليوم الأول وحتى الأخير ..حاولت تجنيده للشيوعية
لكنه استعصى عليّ فتركته وأبقيته صديقا خاصا . ثم اجده معي في سيارة الترحيلات من قسم
الشرطة إلى سجن القناطر ! دهشت فأنا لم أجنده واعرف بحكم وضعي التنظيمي أن لا علاقة
له باي تنظيم شيوعي .. فما الذي أتى به ؟
عرفت بالتدريج أن اعترافات من أشخاص محددين على كل مجموعة صحافة ( كنا سامي
خشبة وحسين شعلان ويحي مختار وعواطف عبد الرحمن ونجلاء حامد وأنا ) وسبقنا عبد السلام
60 ) ثم جاء القبض عبد الحكيم قاسم – مبارك في حملة السنة الماضية ( ديسمبر - يناير 95
( من كلية الحقوق ) نتيجة مراقبة المباحث وضموه إلى القضية وطالب حقوق اسمه كريم وهو
صديق لأصدقاء عبد الحكيم أي شوقي خميس .
بقي يحي معنا في السجن اربعة عشر شهرا تحت المحاكمة وقبل ذلك بضعة شهور تحت
التحقيق في القناطر .. لتفرج المحكمة عنه وعن شوقي خميس وعن شخص آخر اسمه ميلاد .
في سجن إسكندرية كنا ثلاثة في الزنزانة .. يحي وشوقي وأنا ..نتقاسم الطعام والسجائر
والاحباطات والأخبار .
لم تكن معنا اوراق وليس مسموحا بها .. لذا كان شوقي يكتب أشعاره على حائط الزنزانة (
توفى شوقي في بدايات 2015 ) .. بينما يتهدج يحي حبا في "خطيبته " التي تزوجها بعد
الإفراج وهو الآن جد محترم..
يكتب يحي بعد ذلك روايته الأولى القوية عروس النيل ..ويتبعا بروايات وأعمال مختلفة
..تتحدث جميعها عن النوبة القديمة وبها بعض الألفاظ النوبية .
هو مع إدريس علي يشكلان عمودان مهمان وأساسيان ، من أعمدة الثقافة النوبية في مصر. لكن
يحي تعلم من تجربته السياسية في السجن أن لا يخاطر بحريته .. لذا فهو نوبي مسالم بل انه
يرفض أطروحات شخص مثل حجاج أدول ، التي يعتبرها يحي متطرفة ولا تمثل آراءه الحقيقة
في ما يجب أن تكون العلاقة بين النظام الحاكم والنوبيين .
التقيته مرة اثر عودتي من امستردام في المعادي حيث يقيم وحيث يقيم أيضا صديقنا المشترك
علاء الديب الذي قررنا أيضا زيارته. قال لي يحي متوترا بعد أن التقاني في محطة المترو انه
زعلان مني فلما سألته مندهشا ليه وانا لسه واصل من امستردام ولم الحق افعل شيئا بعد
يستحق الزعل قال انه زعلان لأني سأدخل النار .فسألته ضاحكا .. طيب لماذا لا يتشفع لي يوم
القيامة أن كان هناك يوم كهذا ؟ فغضب مستاء. هذه المرة وقال أن أفكاري ولساني هي السبب
في زعله مني . قال انه يعرف جيدا اني غير مؤمن بالمسيحية فلماذا لا أعلن إسلامي وأتلو
الشهادتين ويا دار ما دخلك شر؟ فقلت له جادا ولله يا يحي ما عندي مانع أتلو الشهادتين
الآن ..وبالفعل تلوت الشهادتين ثم قلت لكني أيضا لا أؤمن بأي دين فما الفائدة ؟
كنا قد اقتربنا من بار يعرفه .. فقال يحي الدمث الطيب : تعال نشرب كأسا نحتفل بقدومك
عشان علاء ممنوع من الشرب !
علاء الديب ..كتب عني أول مرة دون أن يعرفني أو حتى يلتقيني بمناسبة صدور كتابي
" صباح الخير يا وطن " الذي كتبته باعتبار ر انه شهادة شخص لا يحمل سلاحا عن بيروت
. الغربية المقاتلة ضد شارون عام 82
ثم تعرفت عليه وتوثقت علاقتنا بعد بيضة النعامة حيث كان أول من كتب عنها في مصر بل
وفي العالم العربي .
أهديته مجموعتي القصصية صانعة المطر . أحببت أن اهديها له اعترافا بدوره العام
في متابعة معظم الكتابات الإبداعية بالإضافة طبعا إلى أعماله هو مثل " زهر الليمون " وقمر
على مستنقع .. وغيرها
بالنسبة لي ، أود الآن أن ارجع فاكتب قصصا قصار .. لأني خلال كتاب ايثاكا
وبعدها ، كنت قد أحسست بالإنهاك البدني والروحي ..ثم حينما أكملت " شاتنج " أحسست
اني نضبت واني بقيت شبه " مفرغ " من اعمال طويلة تستنفد الجهد. فأنا بطيء في الكتابة
وموسوس .. يأخذ النص المتوسط الطول مني مثل ايثاكا أكثر من سنتين من الكتابة المتواصلة
حتى في ايام العطلة والأعياد !
وبدأت بتجربة جديدة عليّ في الكتابة .
تجربة كتابة الأحلام :
" كنتُ أضحك في حلمي " هي عن تجربة الحلم وما يحدث فيه ثم ربطها بتجربة مقاربة في
الحياة . توقفت لأني انشغلت بأشياء أخرى كتابية طبعا .. فقد كنت اكتبها إثناء كتابتي شاتنج
وبالفعل لم استطع الدخول في عملين في وقت واحد . اني اكتب الآن – 2010 – مجموعة تتعلق
بالموت والأحلام أيضا . أسميتها مؤقتا "نور السلِمْ " وهو النور الكابي الخافت الذي تجده في
البيوت المصرية القديمة الذي يضيئ السلالم .
صانعة المطر
كانت تجربة هامة وخاصة في الكتابة عندي .. فهي كانت مسودات لقصص لم تكتمل وأفكارا
غير ناضجة.كنت اكتب في مزاج التماسيح وهي نص معقد ومتعب . توقفت لأني لم اجد دربا
اطرقه.او لعلي ضيعت الدرب 19 تذكرت هذه الحكايات فقعدت اشتغل عليها. هي بالفعل حكايات ..
فالغرباوية شخصية حقيقية تبيع الخضروات في السوق ..كان ذلك سوق بور تسودان التي
وصلت إليها مع صديق هولندي . المرأة الانجليزية هي سيدة هولندية كانت تعمل بالسفارة
الهولندية بالخرطوم . دعتنا على العشاء عندها في البيت . في منتصف العمر وكما وصفتها في
القصة . بالطبع لم يكن هناك صديق شاب للغرباوية، لكن الغرباوية التي رأيتها في بيت
الهولندية كانت أيضا تبيع الخضرة في سوق أ صغير قريب من بيت الهولندية . لعلها كانت
تمونها بالبانجو الذي كانت الأخرى تحب تدخينه.
19 نتيجة نصيحة وإلحاح احمد هشام فكرت كثيرا في إعادة كتابة هذا العمل . قررت أن أتخلص من " الأيروتيك " الكثير الذي به وأركز
على حدوتة الصراع المسلح الطائفي بين المسلمين والمسيحيين في مصر. وبالفعل بدأت – الآن – في إعادة الكتابة
في اليوم التالي اخبرني الهولندي انه سيلتقي أناسا دبلوماسيين ( هو دبلوماسي شاب ) هولنديين
، فتملصت منه ودعيت نفسي عند الهولندية بعد أن أخذت هاتفها منه .
قضيت وقتا "خاصا " مع الهولندية ولم يكن متوقعا بالنسبة لكلينا. بقيت معها حتى الصباح بينما
كانت صديقتها الغرباوية تبيت في غرفة النوم الأخرى .
في قصة القديسة آن : كنت قد التقيت ب "آن " البولندية تعمل في جنيف حينما كنت أنا أيضا
اعمل في تنظيف المراحيض هناك. آن كانت تعمل في مكان أرقى ( اعتقد أنها كانت محللة في
معمل طبي) ..تعرفت عليها من خلال أصدقاء بولنديين استضافوني عندهم . لقد حدث بيننا -
تقريبا – ما حدث في القصة مع اختلاف اساسي .ان القصة كانت تحكي عن طقس احتفالي في
قرية سويسرية.. بينما التجأنا آن وأنا إلى غابة مجاورة بالقرب من مزرعة ذهبنا إليها لسبب لا
أذكره الآن .
في القصة التي بعنوان صانعة المطر كنت قد كتبت سابقا عن ملابساتها وعن التلصص الذي
كنت اقوم به مع صديق طفولة آخر على البنات في حمامهن المشترك بعد طقس " الحلاوة "
ميشا
احتلت ميشا البولندية التي كانت " صديقة " لي وانا في بولندا ، وارتبطت بها ومعها بكل
الانفجاريات العاطفية والجنسية التي حملتها معي في أول لقاء لي بأوربا والعالم خارج مصر
والسودان . هي تحتل حيزا هاما من بيضة النعامة كما أنها احتلت وتحتل حيزا هاما في حياتي
حتى الآن رغم انا لم نلتق سوى مرتان بعد أن انفصلنا . مرة في العام 76 حينما استغليت أول
نقود حقيقية احصل عليها من عملي في العراق وإجازة نهاية العام . أتصل بها مترددا ( كنت قد
تزوجت في السنة السابقة من بربارا البولندية ).. كنت على مشارف طلاقي الأول ومحبطا .
اتصلت بها فدعتني بدون تردد .. مع اني لم أكن محتاجا إلى مكان مجاني ..لبيت الدعوة ،
وركبت الطائرة وأقمت بضعة ايام في بيتها ..كانت هي في علاقة مع شاب يصغرها بحوالي
عشر سنوات أو أكثر ( هي تقاربني في العمر ) .. ثم دبرت لي مكانا عند صديقة لها اعرفها
أيضا ..واتفقنا أن أدفع للصديقة مبلغا من المال حيث أنها تكتب للصحافة والتلفزيون من الخارج
فري لانس.
كانت منظمة تضامن في أوجها وتكاد – خلاص – أن تنتزع السلطة من (النظام القديم الشيوعي )
.
ميشا تمثل لي الطبقة المثقفة ، والتي تضرب جذورها عميقا في ارض بولندا.هي لم تنضم إلى
الحزب الشيوعي ؛ وكانت تعمل ( قبل هجرتها النهائية إلى السويد) باحثة في الجامعة في قسم
الدراسات الإفريقية ، وكانت تشرف ذات سنة على نادي اتحادات الطلاب الأجانب ..وهناك
تعرفت بها وأقمنا علاقة طويلة.
عملها كان مهددا لأنها غير حزبية وتأبى هي أن "تساوم " وتنضم إلى حزب غير مقتنعة به
وترى من أجهزته عنتا وصلابة رأي وغباء .
حينما تعارفنا كنا في منتصف ثلاثيناتنا .. هي أم لابنة في حوالي الرابعة عشر ومطلقة من زوج
يعمل قبطانا في "أعالي البحار" ( بعد ذلك سوف يستميل زوج أخت ميشا ابنة ميشا المراهقة
القاصر ويقضي وطره منها . هو مدرس جامعي وزوجته كذلك . سكير لا يفوق إلا في النادر.
حكت الابنة لأمها ما حدث .قررت ميشا أن تقول لأختها وان تواجهانه . وبالفعل تواجهوا .. بكى
الرجل واعتذر .. تمت تغطية الموضوع )
كانت علاقتي بالابنة "عادية " .. وكنت اعلم أنها أيضا بدأت تدمن على المخدرات التي كانت
عقوبتها قاسية في بولندا ..أدخلتها أمها مصحة للعلاج وكنت ازورها أحيانا .
هذه حياة أسرة بولندية صغيرة ..نجد أن أختا كبرى لميشا كانت قد أفلحت أن تتسلل
إلى السويد وتحصل على لجوء سياسي .. ثم لحقت بها ابنة ميشا .وبعد ذلك بسنوات لحقت
بهن ميشا .وسوف اجد خلال إقامتي في بولندا أو مدن غربية أن البولنديين قد هاجروا
..ويواصلون الهجرة منذ أمد بعيد . وبالطبع كانوا ما كان من الأيرلنديين الأوائل المستوطنين في
امريكا.
الشقق والبيوت البولندية التي تعود للعمال، وطبقة الانتلجنسيا . بيوت ضيقة ومكدسة . فالجيش
النازي الألماني في الحرب العالمية الثانية حطم البنية الأساسية للدول التي احتلها وهكذا بدأ
تعمير بولندا على الطريقة الستالينية . بيوت "تعاونية شعبية " ضيقة بدون شرفات .. صحيح أن
النظام الماركسي الجديد استطاع أن يحشد الأهالي لإعادة بناء مدنهم المخربة .. لكن المباني
القائمة لا تلبي احتياجات الناس هناك.
لذا ليس من الصعوبة ممارسة زنى المحارم في ظروف كهذه. ولعل السكر الذي تحول إلى إدمان
جعل الرجل لا يرى في البنت سوى الفرج الذي يناديه !
كانت ميشا هي أول علاقة طويلة ومنتظمة مع امرأة . تعرفت عليها في منتصف إقامتي ببولندا.
وكنت – مثل معظم الطلاب الأجانب – استمتع بالعلاقات مع البولنديات اللاتي لم يمانعن في
إقامة علاقات سريعة مع الأجانب . كنا نوعا جديدا من الفاكهة ..وكانت البولنديات بما عرف
عنهن من استقلالية يقبلن بشراهة على هذه الفاكهة .. ثم أن الحرب قضت على عدد مهول من
الذكور كما أن نسبة المواليد كانت منخفضة وعلى الأخص الذكور .
الإناث كن أكثر من ضعفي عدد الذكور آنذاك !
لذا بعد فترات طويلة من الصياعة استقرت أموري مع ميشا التي تقاربني في العمر ..اقضي
معها معظم أوقات فراغي عدا بعض السرقات التي كنت اقوم بها بانتظام بين وقت وآخر.
أسرق أجساد البنات الأخريات في غفلة منها هي التي كانت تتابعني بعيني صقر .
ها أنا في علاقة جديدة عليّ تماما وعلى الثقافة ، التي قدمت منها وبعد تجربتي
المزعجة مع سفيتلانا الروسية ( نور ) حينما كنت في القاهرة بعد الإفراج عني..علاقة جديدة
ومريحة إلى حد ما ، خاصة - بعد أن استقرت - .
لم أعد أواجه نفسي بأشياء يصعب عليّ تحقيقها مثل كل علاقة جديدة . هذه علاقة
رَفَقْ تشبه الزواج ..طبيخ وغسيل وأصحاب مشتركين أو اصحاب جدد وأهلها تعرفت عليهم
وتعرفوا عليّ. ومرواح مشترك للنادي والسينما ..بل وفراش مشترك ومسؤولية مالية شبه
مشتركة ( من ناحيتي حيث كان دخلي من المنحة هزيلا) لكن الجنس هنا امتزج بالحب ( أو قل
الولع ) ..جنس مستقر (!)
من ميشا ومن " الاستقرار الجنسي " الذي استمتعت به معها وببعض ما "ملكت أ
يماني" .. تغير مفهومي بسرعة دراماتيكية عن الجنس والمرأة . هذا تغيير لم تفلح سفيتلانا أن
تفعله في ؛ غالبا لقصر المدة ولصغر سني وقلة تجربتي . التغيير الحادث جنسيا هو أن الجنس
تحول إلى متعة مشتركة وليس فردية تخصني ( أو تخصها ) لم يعد الجنس أداة " إثبات " ذكورة
أو فحولة ..لكنه أصبح أداة لجلب البهجة بل والضحك ..إذا بدأنا "ننكت " على بعض خلال
الفعل الجنسي خاصة إذا لم يحدث لي انتصاب كما ينبغي لأي سبب من الأسباب .
لم تعد تهمني عدد المرات .. لم يعد "الوقت ألإيلاجي " هاما بل حل محله الوقت
الجنسي ..اي الوقت الذي نقضيه كلانا في مداعبة وتحقيق بعض فنتازياتنا .
لأول مرة تقول لي امرأة أنها تحبني .. وأصدقها فهي لا تبغ شيئا من وراء معرفتي بها أو
حبي لها وحبها لي . هذه أيضا تجربة جديدة عليّ تماما حيث كنت في السابق في مصر استخدم
اصطلاح الحب لنيل مآربي .
قضيت وقتا طويلا قبل أن اعرف اني احبها أو لا . لأنه أيضا ليست لي سابق خبرة في
حب متبادل ومشبع جنسيا . فالحب في مصر كان من طرف واحد ..مني وبالتالي لم يكن للجنس
علاقة ما به أو بي . كان حبا عذريا محبطا .
رين × أنا (الآن ) اعرف أمها وإخوتها وابنتها وهي مثلي لا تجاهر بعواطفها أمام إلا
لكنها لا تخبئها ؛ تقول لهم اني " حبيبها "
..الصب تفضحه عيونه !
هي أصبحت عائلتي في غربة يحوطها الجليد والوحدة والسأم . طبعها السلافي الحار المتقلب وائم
طبعي الإفريقي المتقلب أيضا ..لذا تواصلنا ونتواصل حتى الآن على البعد. هي في السويد وانا
في امستردام . كلانا في غربة بعد عن " الوطن " وكلانا لا يتكلم لغة الأم إلا فيما ندر ونحن في
بلدينا الأوربيين . نتحدث بين وقت وآخر بالتليفون . هي جدة . حفيدتها السمراء من ابنتها
وكونغولي لاجئ في السويد، جاءت إلى امستردام ، لعمل سريع . اخبرتني ميشا بذلك . فدعوتها
للعشاء في بيتنا . اولادي وزوجتي يعرفون عنها الكثير ..لذا رحبوا بالحفيدة التي أيضا اسمها
ماريا .. وتدليع الإسم يصبح ميشا !
هي – الحفيدة – تعرف حكايتي مع ميشا . احضرت صديقا لها غربيا من ايطاليا ( على ما
أظن ) ولعلها - تخيلت ساعتها – كانت تتأمل احوالي الجديدة واحوال الزمن القديم!
نساء بولندا وبناتها علمنني الحب والجنس واعدن لي مراهقتي المفقودة وسنوات شبابي المسروقة
مني ، تلك التي قضيتها في السجن . علمنني احترام الأنثى ومحبة صحبتها بعد الجنس وقبله .لم
يعد الجنس عندي قنصا أو صيدا ولهفة . بل أصبحت الأنثى إلهة تعبد وترد لي العبادة بالتوله فيّ
وفي ذكورتي . لم يحدث لي هذا من قبل .
يتحول الجنس معهن إلى بهجة متبادلة .
كن اساتذتي .
كنت تلميذا نابها !
النساء في حياتي : قطبان ؛ سالب وموجب . ابتعد عن السالب ويجذبني الموجب .القطب السالب
يسحب طاقتي ويستنفذها في التراهات والتفاهات والقيل والقال . الموجبات تدفعنني إلى الأمام
ويسترددن ثقتي بنفسي ويقوين من عزيمتي ويمتّنّ إرادتي .
السالبات يذكرنني بوجودهن دائما حتى أمل منهن .حركتهن أما بطيئة إلى حد الإرهاق أو سريعة
متوثبة مثل ارنب مذعور ، فيرهققني أيضا إلى حد الإنهاك.
محظوظ أنا بان الموجبات أكثر من السالبات . العاطيات المانحات ، المسامحات أكثر من
الشحيحات في عواطفهن .
الشحيحات في العواطف بخيلات الجسد باردات الفعل ثليمات الخيال ناقصات الفانتازيا. بالعكس من
كريمات العواطف ، فهن معطاءات الجسد كاشفات عن كنوزه المخبوءة ،منتظرات بشغف لحظة
الكشف فينفجرن متوهجات مثل الشهب معلنات عن بهجتهن بسرور واضح بلا خجل، فيضفن
إلى متعتي بهن ولعا وامتنانا . يصبحن مثل حقول الحنطة الناضجة يطبن للآكال وحينما تعصرهن
بين الحقوين يفحن عطرا ولهبا وبردا ونارا يتضوعن كالياسمين في الفجر وقد اثقله الندى.
كتاباتي عن النساء احاول أن أصل اليهن . إلى اعماقهن الخبيئة مثل "خبيئة اثرية " خبئها اصحابها
خوفا عليها من اللصوص وحماية لها من ايدي عابثة لا تقدّر جوهرها.
هن أحيانا متوحشات متغولات؛ ساعتها يجب الابتعاد عنهن حتى تهدأ ثورتهن . تصبح الواحدة
منهن ألف، ألف ميدوسا ، فيكون الهروب من امامهن ومن حولهن هو الحل الأوحد للنجاة من
غائلتهن .
أحيانا يكن مثل النسيم الرقيق ، يهفهفن على الجراح المدماة ، فينزلن عليها بردا وسكينة!
كمال وصنع لله
لا يمكن الكتابة عن شذرات من سيرة حياتي دون أن اكتب عن اهم شخصيتين مؤثرتين في هذه
الحياة ، حياتي ، هما كمال القلش وصنع لله ابراهيم .
فقد تشاركت أنا وصنع لله شقة قاهرية ؛ حيث أن كلانا لم يكن له مسكن في القاهرة وكان هو قبل
ذلك يقيم في غرفة أو استوديو في مصر الجديدة ( وصف المكان في رواية اللحنة ) أما كمال فقد
أقام مع أسرته في مصر الجديدة في فيللا تعود إلى والده في شارع جانبي . كنا نلتزم الحذر حينما
نزوره هناك ، حيث يقودنا بصمت إلى غرفته ونحاذر أن تعلوأصواتنا حتى لا نزعج والده ( قال
أن والدته متوفاة ) وهو حكى بعض الشيء عن والده في كتاباته الأخيرة التي نشرها بمجلة (
جريدة ) القاهرة قبيل وفاته بشهور قلائل .
فكما ذكرت ، تعرفت على كمال في معتقل الواحات عام 62 وتواصلت صداقتنا حتى أن رحل منذ
سنوات إلى العالم الآخر. تعرفنا " عزابا " وانتهينا متزوجين ومعنا أولاد صبيان وبنات . ومع
توطد علاقتي بكمال إلا اننا كثيرا ما اختلفنا ويصل خلافنا إلى حد الشجار ومن ثم القطيعة ( غالبا
من جانبي ..اذا يبدو أن تربيتي البروتستنتية التطهيرية كانت وما تزال عائقا امامي في تقديم
تنازلات غير اساسية ) ولكنن وقفنا دائما إلى جانب بعضنا في الملمات والأزمات ..فهو لم
يقاطعني بل عاتبني عتابا شديدا على زيارتي إلى فلسطين إسرائيل بينما تسببت هذه الزيارة في
قطع العلاقات بيني وبين صنع لله . وهذا فارق كبير في طبيعة كمال وصنع لله .فكمال متسامح
و"هلهلي " كما نقول ..اي انه لا يقيم وزنا لأشياء يراها غير اساسية حسب رؤيته هو. كما أن
طموحه الأدبي رغم صفاء رؤيته الفنية وقراءاته الكثيرة وكتاباته القليلة تدل على موهبة اصيلة
كامنة .ولكنه أيضا لم يطلق العنان – مطلقا – لنفسه أو خياله . كبلته حياته وعلاقاته الاجتماعية
والسياسية.
اقمت معه وقتا خلال رحلة علاجه الأخيرة في لندن حيث اجرى عملية القلب المفتوح. كانت اياما
مؤلمة لكلينا .. فهو على اعتاب موت مؤكد وحياة غير مضمونة . وخلال فترة نقاهته اقمنا في
شقة صديقنا المشترك ؛ الدكتور حسام سعد الدين ..الذي اكرم وفادتنا هو وزوجته الدكتورة مديحة
الصاوي حيث يقيمان ويعملان في لندن .
في أوقات ازمات كهذه تظهر معادن الأصدقاء .
حينما انهيت دراستي المسرحية في بولندا ..انتهت اقامتي هناك اتوماتيكيا. كان كمال قد سافر إلى
العراق ليعمل في جريدة الثورة.تراسلت معه من وارسو وأقنعني بالقدوم إلى بغداد التي كانت
20 ,,استطعت أن احصل على تستقبل الهاربين من وجه السادات وغضبه. كان ذلك عام 1975
توصية من السفير العراقي في وارسو حيث اني اقمت له عرضا مسرحيا بسيطا مع طلاب مدرسة
المسرح بمناسبة ذكرى 14 تموز,
رحلت إلى بغداد وفي جيبي دولار امريكي واحد ( تذكاري بمناسبة ما تتعلق بكيندي ) اعطتنيه
صديقتي البولندية التي تزوجتها فيما بعد( بربارا ) .
كمال وعد أن يستقبلني في المطار لكنه لم يأت وأغاثني سوداني تعرفت عليه في الطائرة نقلني
بالتاكسي الذي استأجره هو إلى عنوان بيت كمال ..وهناك كان البيت ( المشترك مع أمير اسكندر
20 رغم إني كنت ادرس المسرح في وارسو ولم اهتم بممارسة السياسة وبالتالي لم تكن عندي مشكلة ما مع نظام السادات. إلا أن عدم
"حبي " لمصر بشكل عام وللقاهرة بالتحديد ، دفعني إلى " تغريبة " جديدة استمرت من عام 1970 حتى عام 1982 أي حرب شارون
وإسرائيل على لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية
وسعد التايه ) مغلقا بالضبة والمفتاح ..انتظرت صابرا في حديقة البيت الصغيرة حتى رجع كمال
وكان معه عراقي تعرفت عليه فيما بعد هو الشاعر صادق الصائغ..
حجة كمال في التأخير انه نسي نظارة النظر في البيت فرجع مرة أخرى من منتصف طريق المطار
ليحضرها ..الخ ..الخ.
استضافني كمال ردحا من الزمن في غرفته وذهب معي إلى لقاء طارق عزيز الذي كان وقتها
وزيرا للإعلام لأقدم له خطاب التوصية البسيط .. قرأ عزيز الخطاب وقدم لي كوبا من الشاي في
مكتبه وكتب كلمة واحدة فوق الخطاب هي " يُنسب " وصافحني مودعا وطلب مني أن اذهب إلى
لقاء مدير الاذاعة والتلفزيون . حينما التقيت كمال في الردهة سألته
" يعني إيه يُنسب " فصاح مهللا ..خلاص يا ابن الكلب اشتغلت ! 21
بعد بضعة أسابيع من اقامتى في العراق ، تركني كمال ليعمل في مجلة المجلة في برلين الشرقية
وقد زرته هناك أكثر من مرة وقضينا اوقات جميلة .وبالطبع كان يعرف بقصة الانتقال هذه لكن
بحكمته رأى أن لا يحكيها لي بداية وصولي أو قبله حتى لا أٌحبط فلا أقدم إلى العراق أصلا .
يتميز كمال بالدفء، وهو شيء نادر لشخص قضي أكثر من ثمان سنوات متصلة في السجون
والمعتقلات . تزوج – مثلي – على كبر . الصحافة بهرته فركز فيها ..وبالإضافة إلى كسله التقليدي
- بالعكس من صنع لله- لم يهتم بالكتابة .. بل بأكل العيش وبالعلاقات الاجتماعية . لعله لم يكن
واثقا انه يدخل في معمعان كتابة الستينيات مع أن روايته الوحيدة القصيرة ( صدمة طائر غريب )
تمثل فتحا نادرا في الكتابة .. لم يكرره !
له مجموعتين من القصص القصار متميزة وحساسة .
هو واصل علاقته بصنع لله رغم احساسه الذي باح لي به أكثر من مرة أن صنع لله لا يسأل فيه
. فهو وصنع لله زميلا تنظيم سياسي من قبل أن يعتقلا .. أي منذ منتصف الخمسينيات تقريبا
..كان دائما يحاول أن يصلح ذات البين، بيني وبين صنع لله وانزعج كثيرا للجفوة المتواصلة بيننا
..وحينما رفض صنع لله علنا جائزة ملتقى الرواية العربية ..وكان هذا قبل وفاة كمال بعدة أسابيع ،
اعتبر كمال أن هذا نصره الخاص . لعله وجد في هذا الموقف .. تتويجا لكل ما كان كمال يعتقده
ويؤمن به لكنه لم يجرؤ في الإفصاح عنه .
كمال هو الذي حدث صلاح حافظ باحتياجي للعمل. فأنا أقيم في القاهرة بعد أن انتهت فترة عقوبتي
بالاسكندرية التي هربت منها ومن بقايا عائلتي هناك ( عدا اخوالي وخالتي روجينه ) معتمدا على
إعادة " rewriting معونات مالية من الأصدقاء . اخذني كمال للعمل في آخر ساعة ( بالقطعة ) في قسم
الكتابة " أي أن مواضيع المحررين تُدفع الينا لنعيد صياغتها صحافيا ..كانت مكاتبنا في بدرون
بآخر ساعة ..من هناك استطاع كمال أن يقنع صلاح حافظ بان يقوم ( كمال ) برحلة مع أول
توربين روسي قادم بالبحر ، متجها عبر النيل إلى أسوان ليتم تركيبه في مولدات كهرباء السد
العالي ..
هكذا كتب كمال مجموعة من المع التقارير الصحافية في آخر ساعة عن رحلة التوربين الروسي
عبر الإله حابي !
ثم نفذ السادات انقلابه الصحافي والإعلامي وأطاح بقيادات يسارية صحافية ومنها بالطبع
صلاح حافظ لنجد انفسنا أنا وكمال في الشارع ..حقيقة لا مزاحا ..فقد رفض رجال امن اخبار اليوم
بعد اعطائهم التعليمات من " فوق " أن نذهب إلى البدرون ونأخذ ما يخصنا من هناك ..وقفنا
21 في فصل لاحق سأحكي بالتفصيل عن تجربتي في العراق آنذاك
ببلاهة و غير مصدقين لما حدث بين ضحك وابتسامات الشامتين بانتهاء عصر كامل في
الصحافة ..حيث اقبلت مصر منذ تلك الأيام على مرحلة جديدة تماما في الإعلام المصري !
صنع لله
الكتابة عن صنع لله تحتاج إلى "موضوعية " لم تكن من خصالي الأساسية لكني في العقدين
الخيرين وخلال اقامتي في عزلة من اختياري ، في هولندا حاولت أن " ازرع " داخلي موضوعية
ما ، تقوم على الالتفات إلى الجوهر ونبذ التفاصيل غير الهامة لأن كما يقال أن الشيطان يكمن في
التفاصيل ..اي أن ما يبدو مهما هو في الحقيقة زائف الأهمية.
ولما كانت هذه الشذرات مهمتها ليست تصفية حسابات ما ..وان كنت اعتقد اني في السنوات
الأخيرة أصبحت أكثر تسامحا.. ومع ذلك - وكما قلت - سأحاول جاهدا أن اكتب بموضوعية عن
صنع لله ابراهيم .
فليس بيننا حب مفقود انما صداقة تعثرت وانكفأت على نفسها نتيحة لصرامة موقف صنع لله من
زيارتي لفلسطين إسرائيل ( التي سأكتب عنها لاحقا بالتفصيل لكن من زاوية أو زوايا أخرى )
لكن الأنواء عصفت بالعلاقة ..
رأيت صنع لله للمرة ألأ ولى في سجن القناطر الخيرية ..وهو سجن بارد بكل معنى
الكلمة ..لقربه من المياه ..ولقدم جدرانه التي كانت تنشع بالرطوبة .. وللتكديرة 22 التي امرت بها
المباحث حيث كنا حفاة .. بلا ثياب مدنية داخلية صوفية أو قطنية غير ثياب السجن .. بلا كتب سوى
القرآن والأناجيل .وبلا كهرباء .. بلا فسحة سوى نصف ساعة في الصباح وساعة في المساء ثم
اغلاق تام .
كان من سبقني من المسجونين والمعتقلين قد خرجوا من سبعة اشهر متواصلة من مذبحة
تعذيب وقتل شهدي عطية الشافعي في ليمان أبو زعبل .. ثم الفضيحة التي اعقبت ذلك وطاردت عبد
الناصر وهو في يوغسلافيا حينما كان ضيفا على البرلمان هناك .. حيث أعلن رئيس البرلمان
الوقوف دقيقة حدادا على مقتل شهدي 23
لكن من خرجوا من المذبحة كانت ارواحهم أيضا مدماة . وقد كتب صنع لله عن هذه
التجربة في أكثر من مكان خاصة في روايته الأولى الهامة " تلك الرائحة " ثم في يوميات الواحات
.. لكن نتيجة للظروف القاسية التي كنا نمر بها في السجن ، لم نتحادث أو نتعارف خاصة انه كان
. في تنظيم سياسي غير الذي كنت فيه حينما اعُتقلت 24
هكذا لم اتعرف عليه ولم نتصاحب إلا في الواحات.
كان صنع لله صاحب فكرة السفر - بعد الإفراج – إلى السد العالي .كما انه كان صاحب فكرة
سلسلة من الاصدارات نشرف عليها نحن ونمولها من جيوبنا اسمها " كتابات جديدة " وقد كانت
باكورتها رواية " تلك الرائحة " ثم مجموعة كمال القلش القصصية ( أظن كان عنوانها المراهق )
22 مع أن السجون تتبع - رسميا – مصلحة السجون - لكن المباحث المصرية لها اليد الطولى في التعامل مع السياسيين ، حتى اؤلئك الذين
ما يزالوا تحت التحقيق وتجربة التعذيب في أبي زعبل ( الآوردي ) خير إثبات على ذلك حيث كان حفلات التعذيب الكبرى تتم بحضور
كبار ضباط المباحث وبتعليمات منهم – اقرأ كتاب رفعت السعيد " وقائع التحقيق في مقتل شهدي عطية الشافعي " دار شهدي للنشر وكتاب
فخري لبيب " الآوردي " وكتاب طاهر عبد الحكيم " الأقدام العارية " وغيرهم
23 قالت لي السيدة روكسان الشافعي أرملة شهدي أنها استطاعت أن تسرب خبر مقتله إلى صديقة لها تشيكية يعمل زوجها التشيكي
مراسلا لوكالة الأنباء التشيكية ومن هناك انتشر الخبر
24 كنت كما سبق وان قلت عضوا في تنظيم طليعة العمال الذي أصبح " حزب العمال والفلاحين " ثم انضممت وأنا في القناطر إلى
التنظيم الآخر الذي كان به صنع لله نتيجة لإحساسي بأن زملائي في تنظيمي الأصلي لم يهتموا بي كما يجب وإنهم تعاملوا معي حينما
دخلت السجن بحذر ..هذه أشياء تحدث كثيرا في التنظيمات الماركسية حيث يتم الانتقال من تنظيم إلى آخر غالبا لأسباب شخصية
ثم مسرحية لنبيل بدران ( عرفنا عليه كمال ) اسمها السود ..ثم توقفت السلسلة لضيق ذات اليد .. ولم
أكن أنا قد كتبت شيئا هاما فلم اتحمس لنشر شيء لي في السلسلة كذا عبد الحكيم .
واحدة من مزايا صنع لله هي " الدأب " فهو متابع عظيم لما يؤمن به ."كرباج " يلسع ظهور
الكسالى .. وقد " عانينا " من دأبه وكرباجه أنا وكمال الكسالى حينما تهاونا وتكاسلنا في تسليم ما
اتفقنا عليه من حصتنا في كتاب السد العالي ..كما عانينا من ذلك أيضا قبل ذلك حينما اقمنا سويا "
مضطرون " في غرفة واحدة باستراحة المقاولين العرب في أسوان ونحن نخطط ونكتب الكتاب .
السد العالي وتجربة الكتابة اليومية الحية .
كانت تجربة كتاب مشترك ؛ هي تجربة خضتها لأول مرة وكانت صعبة . فانا لم أكن قد تعودت
بعد على النظام في الكتابة وعلى الانتظام فيها.كنت بعتبرها " مزاج " متى جائني وهف عليّ
انصعت له ..لكن بعد ذلك عرفت أن حكاية المزاج والهففان هذه مجرد حجج للكسل . عرفت انه
لابد من التفرغ لها وأخذها بجد جدا وإلا كنت كمن يرقص على السلم. ولم ابدأ الانتظام في عملية
الكتابة إلا بعد سن التاسعة والأربعين ..اي عند بداية استقراري في هولندا والانغماس في كتابة
بيضة النعامة . ولذا ومنذ ذلك الوقت لا يمر عليّ يوم بدون كتابة ..كتابة أي شيء ولو صفحة أو
نصف صفحة كمبيوتر .
المهم ..لوى صنع لله ذراعينا أنا وكمال واستطاع أن يحصل على نصوصنا التي التزمنا بها ،
وأعاد هو صياغتها ..وتم طبع الكتاب .
تجربة السفر إلى السد العالي تجربة خاصة . العمل هناك تجربة خاصة أيضا ..لكن الأقدار وفرت
لنا المهندس والبنَاء المصري العظيم ابراهيم زكي قناوي ، الذي تبنانا وأوعز إلى المهندس حسب لله
الكفراوي ( وقتها كان رئيس مجموعة عمل المقاولين العرب في السد قبل أن يكون وزيرا للإسكان
وهو أحسنهم وأشرفهم جميعا ) أن يستضيفنا في استراحة مهندسي المقاولين العرب . هذه
الاستضافة - لولاها – لما اكملنا شهرا واحدا في أسوان. الاستضافة ابقتنا حوالي ثلاثة شهور في
غرفة مكيفة الهواء اربع وعشرين ساعة ، ووجبات ثلاث مجانا، بالإضافة إلى غسيل ومكوى
مجانا أيضا . ميزانيتنا الخاصة كانت هزيلة .
خالي شاكر الذي كان يعمل مراقبا للحسابات في السد العالي هو من قدمنا وشجعنا أن نتصل
بإبراهيم زكي قناوي ، الذي كان ايامها قد وصل إلى منصب نائب رئيس هيئة السد العالي .
وبدون الترهات التي تقال الآن عن أن الروس هم وحدهم الذين بنوا السد ، فهناك مئات من
المهندسين المصريين الأكفاء شاركوا وأسهموا فعليا وعمليا في البناء , فواحد مثل قناوي شارك في
تعليات خزان أسوان المتعددة وغيره من الخزانات في مصر والسودان. يعرف النيل مثلما يعرف
كف يده .
تجربتنا في السد ونحن ، يا دوبك ، قد تم الإفراج عنا لبضعة شهور خلت ؛ كانت بالغة الأهمية
لكي تظهر لنا وجه مصر الأخرى .. البناءة والشعبية ..ليست مصر المباحث والتعذيب والسجون
والمناورات السياسية .جعلتنا نؤمن بان لو مصر واصلت ذلك الطريق ، لكان مصيرها أكثر
اشراقا وتفاؤلا .. طريق البناء ؛ البنية التحتية ، طريق إشراك الشعب كله في مشروع كبير قومي
يتحدى القوى الدولية التاريخية ويرتبط بالقوى الصاعدة في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية ..
لكن للأسف ؛ كان الاتحاد السوفيتي قد نخر سوس الخراب داخله مثلما لم تكن مصر الناصرية قد
نضجت بعد ..لتواصل طريقها .
وأنا الآن في أوربا التي تزداد توحدا ويمكن عبور حوالي ثلاثين حدود دولية اور بية بدون فيزا ،
اتحسر على مآل الوحدة اليتيمة بين مصر وسوريا أو حتى ذلك المشروع المجهض بين مصر
والسودان .
انجاز الكتاب جعلني اشعر بأهمية ما فعلناه. السد اوحي اليّ بمسرحية النفق " التي نشرتها ضمن
سلسلة المسرح العربي في عصر صلاح عبد الصبور ورياسته للهيئة العامة للكتاب ..كما أن السد
اوحى إلى صنع لله برواية "نجمة اغسطس " " وتحضرني واقعة طريفة هنا أن العنوان الأول
لتلك الرائحة كان " الرائحة العفنة " أو شيئا من هذا القبيل ..كنا أنا وصنع لله ايامها نقيم في فندق
كراون بشارع عماد الدين وكان يقيم فيه نجيب سرور . اقترحت على صنع لله تغيير العنوان
بتلك الرائحة . أما عنوان رواية كمال " صدمة طائر غريب " فقد كان عنوان قصة قصيرة لي
بعنوان " صدمة طائر " !
تشاركنا أنا وصنع لله بعد ذلك في شقة في الزمالك تؤول إلى صديقة يونانية من صديقات روكسان
ارملة شهدي . اسمها انجيلا. شخصية لطيفة وحساسة ..كرهت الشقة التي كانت تعيش فيها مع
حبيبها الذي توفى بها ، فأجرتها لنا مفروشة بسعر معقول في تلك الأيام . هو صنع لله الذي
استطاع انتزاع الشقة لنا. غرفتان وصالة وبقية الضروريات . كان صنع لله ايامها يعمل بشكل
منتظم في وكالة انباء الشرق الأوسط ..وكنت أنا اعمل مترجما إلى العربية من الانجليزية في وكالة
نوفستي الروسية ..وكان صنع لله أيضا هو من قدمني لهذا العمل وزكاني له. استقرينا في هذه
الشقة حوالي سنتين ..ومنها غادر صنع لله إلى بيروت ومن هناك إلى موسكو ليحقق حلمه
الشخصي بدارسة السينما . بدأ بدراسة التصوير .. لكنه لم يكمله ورجع إلى مصر .كان يدرس
معه هناك كل من محمد ملص وعمر اميرالاي المخرجان السوريان ( المعروفان الآن ) وقد تعرفت
اليهما في رحلة لي من وارسو إلى موسكو .
حينما غادر صنع لله مصر بقيت بمفردي في الشقة وبدأت أيضا أفكر في أن ادرس المسرح الذي
اكتشفته وأنا في الواحات .. بدلا من كتابتي المتخبطة هذه. عرفت من خلال زميل الواحات السابق
عبد الملك خليل ( كان وقتها يعمل في الأهرام ) عن وجود منحة من اتحاد الكتاب البولنديين لاتحاد
الكتاب المصريين ( كان رئيسه آنذاك يوسف السباعي ) لدراسة اللغة البولندية . تقدمت إليها مع عبد
الحكيم قاسم .شجعنا ادوار الخراط الذي كنت اعرفه معرفة بسيطة ايامها ..وحصلت على المنحة
وتخلف عبد الحكيم لأسباب عائلية ثم استطاع الذهاب إلى المانيا والعمل هناك كحارس ليلي .
تجربة بولندا كأول دولة اشتراكية و ومكان خاص لدراسة المسرح والتعرف بجد وبمتعة على
الأنثى في حياتي تستحق مكانا خاصا بها ..ليس هنا!
عرفت بعد ذلك أن صنع لله استقر في مصر . وحينما كنت مع كمال في العراق أعطاني رواية
صنع لله الثانية " نجمة اغسطس " 25 فكتبت له بعد أن قرأت الرواية نقدا ساخرا ( عرفت ذلك فيما
بعد ) واكتشفت انه غضب من سخريتي ومن نقدي .. فاعتذرت له وتصافينا .
حينما رجعت من بيروت بعد حرب 82 الاسرائيلية كنت حزينا ومحبطا. التقيت صنع لله في
القاهرة . اصر أن اترك الشقة المفروشة التي كنت استأجرتها في مدينة نصر وان أقيم معه في شقته
التي ما يزال يعيش فيها حتى الآن في مصر الجديدة . كان قد تزوج.. وأصبح كاتبا معروفا على
المستوى العربي والمصري .
25 حينما زرت صنع لله في المانيا الشرقية – برلين – حيث كان يعمل مترجما في وكالة المانيا الشرقية للأنباء وكنت أنا ، ادرس في
وارسو ، كان هو قد بدأ كتابة نجمة أغسطس ، بعد التحضير الطويل لها.
كانت اقامتي معه هامة ومفيدة لي إذ ساعدني في إرجاع شبكة علاقاتي التي تركتها من حوالي
اثنتي عشر سنة تغيبت فيها عن مصر بالإضافة إلى اصدقاء له لم أكن أنا اعرفهم .
اتصلت روكسان التي كنت اعمل عندها ومعها قبل مغادرتي مصر حيث اسست أول جاليري
تجاري في القاهرة هو " سفر خان " وكان محي الدين اللباد هو الذي كتب لافتة المحل! في سفر
خان تعرفت على اهم فناني مصر من الأحياء ومن الأموات أيضا . قبل ذلك كان شادي عبد السلام
يأتي إلى الدكان الذي كان مكتبة هامة للكتاب الأجنبي ويشتري كتبه.كان صديقا لها ..مثلما كان
صلاح أبو سيف ومحمد عودة وعبد الرحمن الخميسي ..وقد تعرفت عليهم وتصادقنا أنا وعودة ثم
حينما عملت في بغداد التقيت الخميسي هناك مع محمود السعدني واحمد عباس صالح وغيرهم من
الإنتلجنسيا المصرية . ولسباب غامضة تواصلت علاقتي بعودة والخميسي ولن تتواصل مع
الآخرين.
كانت روكسان هي من قدمت مشروع انشاء دار نشر تحمل اسم شهدي ..كانت قد كسبت قضية
رفعها لها احمد الخواجة ونالت تعويضا على مقتل شهدي قدره اربعة عشر الفا من الجنيهات. هي
رأت أن تستخدم هذه النقود في احياء اسم شهدي من خلال الدار .كانت فكرتها أن نعمل سويا أنا
وصنع لله في تأسيس الدار. وافق صنع لله في البداية لكنه انسحب بسرعة وقال انه لا يريد أن
بشغل نفسه بشيء سوى الكتابة .
هكذا اكتشفت لأول مرة وجها آخر لصنع لله .. الالتزام الذي لا يحيد عن الهدف من اجل اتمام
. مشروعه الشخصي : الكتابة وكان ذلك اواخر عام 1982
ثم حدث أول احتكلاك جاد بيننا حينما اقترحت عليه عمل مسرحة لرواية اللجنة التي اعتبرها
واحدة من أحسن أعماله واهمها وواحدة من أحسن ما كُتب بالعربية عن "فضاء كافكاوي " كهذا
تحمس هو ..وعرفته على مراد منير المخرج والتقينا بمراد في بيته في مصر الجديدة وقدمت له
تصوري .. كما كنت أقدم لصنع لله المسودات .. رفض مراد مسرحتي للحنة واعتبرها " سياسية
صارخة " وقال انه يريد مسرحية مثل تلك التي يقدمها فؤاد المهندس وفايز حلاوة. قال أنها
مسرحية للمسرح الطليعي .وما اكتبه وهو يريدها للمسرح التجاري. لذا انسحبت من التعامل مع
مراد لأني اكتشفت أن كل منا ينظر إلى المسرح بمنظور مختلف.
اذكر ذات مساء التقيت بسيد حجاب وحياة الشيمي 26 وانطلقنا لنشاهد فيلما من افلام مهرجان
القاهرة السينمائي في سينما فندق ماريوت. بالصدفة كان في الصالة مراد منير الذي قال لي بشماتة
انه اتفق مع صنع لله انه الأخير يقوم بمسرحة نصه الروائي وانه اتفق معه أيضا أن لا يخرجه
سواه وان الممثل الأول سيكون نور الشريف الذي سينتج المسرحية . جاء صنع لله وكنت منزعجا
من موقف مراد السابق والآني . سألته أمام الحاضرين عن صحة هذا الكلام .. فلم يريد أن يؤيد
أو ينفي بل ادعى اني ادخله في حواديت مزعجة حسب تعبيره.
تأكدت فيما بعد من صحة كلام مراد. وعاتبت صنع لله وكان لقائنا عاصفا, سافرت إلى
امستردام بعد أن طبعت المسرحية على حسابي عدة مئات بالرونيو خوفا من أن ينتحلها احد.
اعطيتها عنوان " الراجل اللي أكل بعضه " متخذا من المشهد الأخير من الرواية اسم المسرحية ..
ثم افاجيء ببرقية من صنع لله تقول ما معناه أن افتتاح مسرحية الراجل اللي اكل بعضه على
مسرح الطليعة في المسرح القومي يوم كذا ..( ايامها لم نكن نعرف الكمبيوتر أو الميل ولم يكن
عندي فاكس ) ترجمت البرقية لزوجتي التي كنت قد حكيت لها ما حدث بين وبين صنع لله ..
قالت انه بإمكانها أن تدبر لي نقود السفر إلى مصر لكني رفضت وقلت لها لست يوجين اونيل أو
26 حياة الشيمي صحفية وممثلة ومترجمة ..آخر أدوارها المسرحية كان دور البطولة في مسرحية يخرجها مراد منير ويشاركها في البطولة
صلاح السعدني ومحمد منير المطرب المشهور .. المسرحية كانت تمصير لمسرحية بريخت أوبرا الثلاث مليمات .
ارثر ميللر حتى اسافر عبر القارات لأحضر افتتاح مسرحيتي 27 .ز وحينما سافرت إلى القاهرة كان
عرض المسرحية قد انتهى ( مجرد شهر واحد) .. وقال لي صنع لله أن فرقة مغربية قدمت النص
ممسرحا ورآه لكنه يعتقد أن النص المصري الذي كتبته أنا أحسن ..هكذا قال..
ثمة تواريخ وأحداث غير مرتبة بوضوح في ذهني عن العلاقة بيننا .. لكنها تواصلت بشكل ما حتى
مرض كمال القلش الأخير .. ثم سافرت أنا إلى فلسطين إسرائيل ..تعاتبنا ثم احسست انه لا يريد
لقائي ..فطلبت من كمال أن يتأكد من هواجسي فأكدها لي وهو ليست له مصلحة في الوقيعة بيننا
بل على العكس كان دائما يحاول اصلاح ذات البين..
وحينما رفض الجائزة كنت موجودا في القاعة ..وحينما وقف في الخارج يحيط به المهنئون ..
اقتربت منه وهنأته وكان ذلك في حضور الكاتب احمد أبو خنيجر الذي قدم من أسوان حيث يقيم
لحضور مؤتمر الرواية .
ما حدث ويحدث بعد ذلك غير هام سوى انه يترك غصة في القلب !
زكائب مليئة بالناس
بورت سودان – ومدني
. وُلدت في مدينة بورت سودان - كما تقول شهادة ميلادي - يوم عشرين مارس عام 1937
..تقول شهادة ميلادي السودانية في خانة "القبيلة" : مصري .
وهي مكتوبة بالانجليزية أيضا ، اقصد القبيلة والجنسية . 28
والدي الأرذوثكسي الأصول ( تحمل عائلة والدي لقب القمص ) تحول إلى البروتستنتية وأصبح
قسا ( إنجيليا ) 29 وذهب للعمل في السودان ؛ لأسباب لم يفصح لنا نحن أولاده عنها ..كما لم
يفصح لنا عن سبب تغيير ملته ..لكني اعتقد – خاصة، بعد أن شاهدت أعمامي الفلاحين
الفقراء ( وكان احدهم بدون حذاء ) أن فقر عائلته كان يقف عائقا أمام طموحه للتعلم والسفر ..
27 اخرج المسرحية المخرج سيد طليب الذي تعرفت عليه بعد ذلك وعلى الممثلين مجموعة العمل
28 لشهادة الميلاد هذه قصة طريفة في دهاليز البيروقراطية المصرية في مبنى المجمع. .فبعد غيبة اثنتي عشر سنة عن مصر وتجوالي في
بلاد لا ترضى عنها الأجهزة الأمنية المصرية مثل اليمن الجنوبي ودول أوربا الشرقية وكوبا قررت ان أتخلص من جواز سفري القديم
الذي كنت أجدده في سفارات مصر المختلفة . فذهبت إلى المجمع وحدث مشادة بيني وبين الموظف المختص حول " المهنة " في جواز
السفر وكان مكتوب بها خريج صحافة ولا يعمل .كانت هذه الطريقة الوحيدة للتخلص من أجهزة عبد الناصر حينما سافرت من مصر
1 لكي ادرس في بولندا ؛ حيث كان يتوجب على الصحفيين أن يحصلوا على إذن خاص لمغادرة مصر . سألني الموظف " عام 970
وكيف أعيش إذ كنت لا أعمل " فأجبت بصفاقة وغباء " أنا غني " فقر تحويلي إلى قسم " الجنسية " وهناك طلب مني الضابط أن استخرج
" إقامة " باعتباري أجنبيا ، حيث أن ميلادي في السودان . وبعد اخذ ورد وافق الضابط على إحضار "ملفي " وإعطاني فوتو كوبي من
شهادة الميلاد هذه . وحينما ذهبت - يومها – لاستخراج الجواز قررت آن اتحاشى الموظف الرذل ، لأحد نفسي استجيب لنداء موظف آخر
نادى عليّ من خلف الزجاج الفاصل بين الموظفين و" الرعايا" طلاب الحاجات ..كان يلوح بمعصمه لي ؛ فتبين "دقة صليب " على
المعصم ( قبطي ) ، واجلسني على كرسي بجواره وسألني عن سبب المشادة مع الرذل . ونصحني بتغيير مكان الميلاد إلى البحر الأحمر (
باعتبار أن بورت سودان ميناء على البحر الأحمر ) وبالفعل استخرجت شهادة ميلاد ( مصرية ) تثبت ذلك وبالتالي أصبحت كل أوراقي
الرسمية المصرية والهولندية تثبت أن مكان ميلادي هو البحر الأحمر!
على "Protest 29 الكنيسة الإنجيلية هي أيضا "انشقاق " من المذهب البروتستنتي الذي ابتدعه الألماني مارتن لوثر حينما كتب "احتجاجاته
أبواب الفاتيكان الذي كان أيامها في مرتع الفساد الأخلاقي حيث أقام الباباوات علاقات جنسية محرمة . بالإضافة إلى الفساد الديني حيث
ابتدع الكهنة صكوك الغفران يبيعونها "للخطاة " فيغفر الرب لهم خطاياهم . الكنيسة الإنجيلية لا تؤمن بالاعتراف أو بالإيقونات أو بتأليه
العذراء مريم أو بالقديسين أو بكل أيام الصيام المتنوعة عدا يوما واحدا في العام هو يوم "الجمعة الحزينة" التي تم صلب المسيح فيها
فاستجاب لإغراء المبشرين البروتستنت ( الإنجيليين ) الأمريكان الذين علموه بالمجان في كلية
أسيوط ( الأمريكية ) وأطعموه وآوه خمس سنوات بالقسم الداخلي بها .
لكن قبل أن استرسل سأكرر السؤال التقليدي : لماذا يريد شخص ما – وعلى الأخص شخص
يمتهن الكتابة – أن يكتب مرة أخرى وبشكل أكثر تفصيلا ، شذرات طوال من سيرة حياته ؛
سوى – لعله – الإحساس بان في هذه الحياة ما يُستحق أن يُروى ؟! وكنت بالفعل قد كتبت أجزاء
من هذه السيرة في بيضة النعامة، وفي مزاج التماسيح ..وشذرات قصار في بقية أعمالي.
حقيقة؛ كنت بدأت منذ حوالي خمس سنوات في كتابة " السيرة " بشكل مفصل ولكن بالطبع
ليست كلها . اقصد ليس كل ما حدث لي، رويته . حقا .. لم أغير من وقائع ما ، أو أجمّل أو أهذب
حادثا ما أو تاريخا .لكن ثمة وقائع معينة لن اكتبها لأنها أساسا تمس حيوات لأشخاص آخرين
شاءت الظروف أن تتقاطع خطوط حياتنا .
كما اني قررت – أيضا - أن لا اكتب شيئا مشينا عن أفراد اعرفهم ، ماتوا ، لعجزهم بالطبع عن
الرد . لذا فهي شذرات طوال منتقاة وملتحمة بشكل ما، بحياة عشتها طوال أكثر من نصف قرن
؛ حيث اني اقترب حثيثا الآن ( تاريخ بدء الكتابة في 27 نوفمبر 2009 ) من الثالثة والسبعين ..
يعني- لو إني- حددت ( نضجي الذهني ) في الثالثة والعشرين وهو العام الذي اُعٌتقلت فيه
(ديسمبر 1960 ) .. لكني توقفت عن التسجيل بعد ذلك، لأسباب متعددة منها عدم رضاي عن ما
كتبته .. ثم ضاع ما كتبته في عمليات انتقال منزلية ( وكونية مثل السفر إلى لبنان أو الإقامة في
هولندا ) ..وحينما قررت العودة هذا الشهر وهذا العام 2009 لكتابة السيرة اكتشفت ضياع
الكثير مما كتبته. رحبت سرا بهذا ؛ لأنه يحررني من الطريقة التي كتبت بها ما ضاع،
ويجعلني ابدأ بطريقة أكثر فهما وتفهما وإدراكا ، لما حدث خلال النص القرن الماضي .. فهما
لما حدث ؛ وبالتالي أكثر فهما لتحولاتي أنا الشخصية والفنية والثقافية والإنسانية ، التي مررت –
وأمر بها - لكي أصبح من أنا وبالتالي ، وما أصبحت وما أمسيت عليه !
سنوات التكوين – سنوات السودان
لم اكتشف أهمية سنوات السودان ( منذ الميلاد عام 37 حتى النزوح العائلي من السودان عام
1951 ) إلا بعد أن بدأت في كتابة بيضة النعامة منذ بدايات عام 1982 . إذ اكتشفت خلال
الكتابة اني كثيرا ما كنت أرجع إلى سنوات السودان. بل أن كتابي الثاني بعد بيضة النعامة وهو
أربع حكايات طوال بعنوان "صانعة المطر" ..كانت ثلاث منهن تدور أحداثها في السودان
..وتواصل هذا " الميل " بقوة في الكتاب الثالث " مزاج التماسيح " ثم بدا في الخفوت تدريجيا
مع الكتب اللاحقة .
ففي السودان عرفت أهمية أن يكون والدي قسا ..كذا عرفت الإحساس بالخجل منه ومن مهنته.
فالبداية كانت اكتشاف أن "بابا " له وظيفة هامة ( في نظري الطفولي ) وهو انه يقف على
المنبر الكبير كل أحد ويخاطب الناس الكثيرة ، ويأمرهم بفعل أشياء ..مثل التراتيل والصلوات
..الخ فيطيعونه بلا تردد أو تذمر ..لأكتشف لاحقا انه فقير - ( لعلي كنت في العاشرة ) وانه
يشترى الأقمشة التي نصنع منها ثيابنا بالنسيئة من دكانة مانيفاتورة عم صموئيل أمين صندوق
الكنيسة .. بل أن الترزي الذي يستأجر مكانا صغيرا له مقابل الدكان يمهل والدي – أيضا- في
الدفع مثلما يفعل عدد من التجار في مدينة ود مدني التي اذكرها جيدا وان كنت لا أذكر مدينة
بورت سودان إطلاقا ..أو هكذا يتهيأ لي.
ثم اذكر أمسية يوم عيد ما وقررت الكنيسة توزيع بعض الهدايا على أعضائها . أتذكر أنها
برتقالة وبعض الحلوى. وكنا نحن الصبية – الأولاد والبنات – نغير ونتبادل الهدايا ..أي
البرتقالة بالحلوى والعكس . اذكر اني اقتربت من عضوين شابين ، احدهما يعمل مدرسا في
المدرسة الابتدائية التي كنت ادرس فيها وطالبتهما - بشجاعة الصبي- بالتبادل ..لكنهما سخرا
مني وقال أحدهما للآخر ما معناه " اني أخطو على خطى والدي القسيس في الشحاذة " كان
تعبيرهما الدقيق الذي اذكره حتى الآن " مد الطبق " حيث كانت الكنائس البروتستنتية ، ولا تزال
، تدور بطبق يضع فيه المصلون عطاياهم النقدية البسيطة ، لكي تضاف إلى ميزانية الكنيسة
الهزيلة ( فالكنائس البروتستنتية الشرقية ليست لها أوقاف بالعكس من القبطية الأرثوذكسية )
يومها .بل وساعتها باخ العيد مع ضحكاتهما، وبدأت الاكتشافات المؤلمة تتوالى ، وهي أكثر
من تلك المفرحة .
لعل سببا آخر في كتابة هذه "السيرة " هو أن ابنتي يارا ، قررت وهي في الحادية والعشرين وبعد
انتهاء امتحانات السنة الرابعة في كلية الطب بجامعة امستردام أن تدرس اللغة العربية وان تقيم في
مصر سنة دراسية كاملة .
طلبت وهي في مصر ، مني ، آن احكي لها "كيف تعرفتُ على ماما " وكان طلبها مفاجأة لي ؛
رغم إني اعرف أنها ، لا تتورع آن تطلق مفاجئاتها باتجاه أي شخص ..
لكن هذه قصة أخرى !
بمناسبة واد مدني سأورد هنا قصة آخر زيارة لي للسودان ولواد مدني ولمنزلنا و"كنيستنا " هناك
في عام 1997 قمت برحلة طويلة إلى السودان شاركتني فيها أربع صديقات منهن
ثلاث هولنديات والمصرية عزة شعبان. قفلت الهولنديات راجعات إلى مصر بعد حوالي
أسبوعين وبقيت مع عزة ، نلف وندور على راحتنا في أرجاء السودان . لقينا بعض
المضايقات من " الأمن السوداني " حينما اقتربنا في غفلة منا إلى حدود السودان الشرقية
مع إثيوبيا فتم "ترحيلنا " بأدب وحسم ولم نفض سوى ليلة واحدة في فندق الحدود هذا .
اتجهنا إلى واد مدني باقتراح من عزة التي تعرف بعض "أحوالي " السودانية . هكذا
وصلنا إلى مدني ( كما يسميها أهل السودان ) ووجدنا فندقا لطيفا يطل على النيل ليس به زبائن
سوانا قادنا إليه سائق التاكسي .
ومن المتبع امنيا في السودان أن يذهب النزلاء بأنفسهم إلى مكاتب الأمن ليسجلوا أسمائهم هناك
وأسباب زيارتهم ..الخ
هكذا ذهبنا أنا وعزة وسجلنا أسمائنا بعد انتظار لمدة ساعة باعتباري "خالها " وإلا لما سمحوا لنا
بالمبيت أصلا في الفندق ( خاصة إننا مصريين وعرب )
المهم رجعنا إلى الفندق لنتجول بعد ذلك في المدينة . أخذنا تاكسي وقلت له "مدرسة الاتحاد " .
بالطبع كانت هذه بلاهة مني إذ كنت أظن أن الأشياء تبقى على حالها على مر الزمن. لكن السائق
المهذب لم يعلّق بل قال انه يتذكر أن ثمة مدرسة كانت بهذا الاسم لكنها الآن لها اسم مختلف
..
قال لنا على اسمها الجديد ..وأصررت أنا على اسمها القديم .وأخيرا أخذنا السائق إلى ما كانت
بالفعل "مدرسة الاتحاد للبنين " .. لم نخرج من التاكسي ، إذ شعرت بفتور همة وإحباط وندم
أيضا على محاولة استرجاع الماضي باعتباره ثابتا لا يتغير.
تكرر هذا مع حديقة عامة كبيرة في مدني ، كانت تسمى على أيام صباي "جنينة كعكاتي " على
اسم صاحبها "الشامي " 30 لتصبح الآن حديقة الشهداء ( أو أبناء الشهداء ..لا أتذكر بالدقة )
وتقسمت إلى عدة حدائق صغيرة ومطاعم بائسة .
ثم حاولت الاستدلال على " سودان بوك شوب "- في مدني أيضا – وهي مكتبة كبيرة ذات مهابة
– كما كنت أراها في صباي - فوجدتها قد أخنى عليها الدهر واكل ولم يمسح بقايا الطعام من
فوقها(!) فقد كانت هذه المكتبة بداية علاقتي بالقراءة خارج مكتبة أبي الصغيرة المنزلية ..وقد اتفق
والدي مع صاحبها ومديرها أن آخذ ما أريد من كتب بالنسيئة ..وهناك كانت اختياراتي الأولى
للقراءة .
وجدتها مكتبة مقسمة أيضا إلى قسمين ليس بها كتب بقدر ما بها من أشياء وخردوات لا تمت
بصلة للكتب ( تماما مثلما حدث في مصر وتحولت مكاتب منطقة الفجالة إلى بيع الأدوات
الصحية والسيراميك )
لذا حينما اقترحت عزة أن اذهب للبحث عن بيتنا القديم وكنيستنا السابقة لم أتحمس
واعتبرت أن احباطين أو ثلاثة يكفون .
لكن فضولي تغلب على شكوكي وتوجساتي وهكذا بعد الاستفهام عن الطرق التي ليست
لها أسماء وصلنا إلى الكنيسة ، التي قال لنا من دلنا على الطريق أنها لم تعد كنيسة النقادية 31 بل
كنيسة الدنكا ( وهي قبيلة جون قرنق الجنوبي وغالبيتها مسيحيون متنصرون ) .. هذا ساعد
أيضا في ترددي ، كني حزمت شجاعتي واقتربت من الكنيسة التي كان بعض أعضائها في
حوشها يجلسون على مقاعد يرتلون ويصلون. انتظرت حتى انتهوا وذهبت إلى من كان يعظهم
وقدمت أنفسنا، وقلت له باختصار أن والدي كان قسيسا هنا وكنا نقيم في هذا البيت الملحق
بالكنيسة . استمع الرجل صامتا مؤدبا مبتسما ثم قادنا إلى البيت الملحق بالكنيسة، وعزم علينا
بكوكاكولا سودانية وفهم إحساسي النوستالجي دون أن أقوله بوضوح ونادى على زوجته وعرفنا
30 في مصر كما في السودان كان الناس يتعاملون مع الفلسطيني واللبناني والسوري باعتبارهم شوام وحينما أقمت في بيروت اكتشفت
أن " الشام " هي سوريا بل أن دمشق يسميها أهلها وجيرانها الشام .
31 يعتبر أهل السودان أن كل مصري هو نقادي ( من نقادة ) التي اشتهر أهلها بصناعة نسيج خاص تستخدمه السودانيات يُسمى الفركة
بكسر الفاء وتسكين الراء ، تضعهن على أجسادهن حينما يكن في امان بيوتهن .نقادي جمعها نقادية وينطقها السودانيون كما ينطقها
الصعايدة وأهل نقادة
عليها وأخذنا في جولة في الكنيسة والبيت ..وحينما قلت له اني اشعر بأن ثمة تغييرا في البيت
..أمنّت الزوجة ،على قولي وقالا ان إدارة الكنيسة قسمت البيت قسمين .قسم للضيافة وقسم
لإعاشة وإقامة القسيس. عرفت انه قسيس الكنيسة واراني كتابا مقدسا مطبوعا بلغة الدنكا ( كنا
نتحادث بعربية مكسرة )
ما بهرني في القس الدنكاوي وجماعته هو " اطمئنانهم " لنا ولحكايتي . فبالرغم من إننا غرباء
كما يظهر هذا بوضوح علينا إلا أن روايتي عن أهلي لم تكن عندهم مثار شك أو ريبة .
أخذنا إلى بيته واطلعنا على خصوصيته وتجول معنا في الحديقة التي قضيت فياه
سنوات من عمرى .. مطمئنا آمنا لنا !
وقد لاحظت خلال المرات المتعددة التي سافرت فيها إلى السودان بعد انقطاع سنوات عنه .. إن
إحساس الناس هناك بالرغم من الحرب والضائقة المالية ما يزال فطريا صافيا . فكم مرة
نسُتضاف دون سابق معرفة في بيوت أهله، نطعم ونشرب وأحيانا نبيت آمنين مُستأمنين !
هذه مدني التي كتبت عنها في بيضة النعامة ..كتبت عن الخور الذي كان يشق المدينة والذي
كان يمر بالقرب من بيتنا ،وظيفته تصريف مياه الأمطار الاستوائية وسحب بعض مياه الفيضان
..والذي كان الصبية يقعون فيه بالغم من عدم عمقه بعد أن يمتلئ بالمياه ويتساوى سطحه
المائي مع سطح الشارع المليء أيضا بالمياه فلا يستطيع الصبية قليلي الخبرة التفريق والتمييز
..
ومدرسة الاتحاد التي قضيت بها أربع سنوات في دراستي الابتدائية ومنها قدمت إلى امتحان
الشهادة الابتدائية المصرية ، وذهبت إلى الخرطوم وعمري حوالي احدى عشر سنة لأمتحن وأقيم
في بيت أسرة مصرية سودانية هي أسرة الدكتور داوود اسكندر والذي حافظت أسرتانا على الود
حتى بعد رحيل الكبار من الأسرتين إلى العالم الآخر.
هذه مدني التي منها رحلنا نهائيا من السودان كأسرة ..
هذه كنيستنا التي طالما جمعت " العطاء " فيها من المصلين وهذا بيتنا الذي شهد السنوات الأولى
المؤلمة والمبهجة من بلوغي مبلغ المراهقين. أرجع إليه في عطلات كلية أسيوط حيث كنت أقيم
في القسم الداخلي ، وقد اخشّن صوتي وتغيرت ملامحي ونبت شعر خفيف في شفتي تحت انفي .
أما بورت سودان فقد ذهبت إليها قبل سنوات من رحلتي هذه ، في مغامرة غير محسوبة
العواقب ، شبه مفلس لكن الأقدار كانت رحيمة بي كعادتها فلم اشحذ أو أبيت جائعا بل
استضافتني بداية أسرة سودانية ثم "مرشد بحري " مصري يعمل في الميناء وهو الذي دبر لي
العودة المجانية إلى الخرطوم على متن لوري مهول ..وكانت رحلة عودة هائلة كتبت عن
الرحلة ذهابا وإيابا في بيضة النعامة أيضا فلا داع للتكرار .
عائلة الدكتور داوود اسكندر
أصدقائي في السودان يتكفلون بي دائما في أزماتي المالية المتكررة التي " رافقتني "
لسنوات طوال منذ خروجي من السجن في ابريل 1964 حتى عملت في بغداد عام 1975
وواصلت التكسب بعد ذلك فلم اعد احتاج إلى مساعدات.
المساعدة الأولى كانت بعد خروجي من السجن و"خروجي " أيضا من رحم الأسرة في
الإسكندرية وبداية استقراري في القاهرة . قدمت لي المأوى أسرة سودانية – مصرية . أسرة
الدكتور داوود اسكندر؛ هذه المرة عن طريق ابنته سميرة التي درست الطب في مصر وتزوجت
مصريا زميلا لها هو الدكتور جمال صابر جبرة . درسا الطب في جامعة القاهرة وتحابا وتزوجا
وقضيا بعض الوقت في مصر يعملان في الطب قبل أن يهاجرا ويستقرا في انجلترا .( وبيننا
اتصال غير متواصل لكنه موجود )
قدما لي غرفة في بيتهما في مصر الجديدة في روكسي . فيلا عائلية اشترتها الأم "خالتي استر "
لكني طلبت منهما أن اسكن في الجراج الفارغ .. فوضبه جمال ووضع به حنفية مياه وسرير
واباجورة ومكتب ..الخ .. واشترطا عليّ أن اصعد إلى فوق حيث يقيمان لأكل معهما ومع
ضيوفهما .أما أصغر الأولاد في عائلة داوود اسكندر فهو صبحي وكان قد درس علم الآثار في
بولندا ، وقبل ذلك درس معي سنة بسنة منذ الابتدائية وحتى نهاية الدراسة الثانوية ..
فقد هاجر مع أسرته زوجته المصرية السودانية مثله، إلى استراليا ، حينما اشتد قمع الحكومة
الإسلامية السودانية التي يرأسها "البشير "
وحينما سافرت إلى استراليا ، منذ حوالي عشر سنوات لأزور أختي وداد المقيمة هناك مع زوجها
وأولادها استطعت أن اعثر على عنوانه والتقي به لقاءا حميما كالعادة معه .
في مصر وبعد الإفراج في ابريل ذ 964 بمناسبة زيارة خروشوف إلى مصر لافتتاح مشروع السد
العالي الذي تم بناءه بخبرة وأموال ومعدات سوفيتية ، ثم بعد العفو الرئاسي ، قدمت إلى القاهرة
من الإسكندرية التي اضطررت آن اذهب إليها بعد الإفراج مباشرة من معتقل الواحات ثم سجن
أسيوط فسجن مصر فالمباحث العامة ؛ حيث كنت مُجبرا على تقديم عنوان سكن لي حتى تتم
"مراقبتي " من وزارة الداخلية يوميا من غروب الشمس إلى شروقها وكذا عملي "مصاريف " في
قسم باب شرق بالإسكندرية ( وهو إجراء بديل لعدم دفع الغرامة التي حكمت بها المحكمة العسكرية
عليّ ( مائة جنيه ) لم تكن ايامها متوفرة لي ولا لوالدتي وأسرتي فقررت أسهل الإجراءات أي
العمل "مصاريف " في قسم الشرطة بدلا من العودة إلى السجن لتنفيذ سجنا بثلاثة أشهر بدلا من
دفع الغرامة (!)
وجدت عملا في القاهرة في آخر ساعة " بالقطعة " .. عمل لا بأس به أتعيش منه وأقيم مجانا
في جراج فيللا روكسي ، واركب الأتوبيس، واشتري سجائري واجلس على مقهى ريش في أيامه
. الذهبية الغابرة وادخل السينما 32
صنع لله إبراهيم وكمال القلش وعبد الحكيم قاسم
في تلك الفترة كنا نلتقي كثيرا أنا وكمال القلش وصنع لله خاصة أن جميعنا أصبحنا من سكان
مصر الجديدة . فقد استقر كمال مع عائلته ( والديه وإخوته ) في فيلا لطيفة بناحية روكسي
واستأجر صنع لله غرفة في مصر الجديدة لا أذكر مكانها الآن .كنا نتجهز لتنفيذ مشروعنا بزيارة
السد العالي والكتابة عنه .
كنا نلتقي بعبد الحكيم قاسم أحيانا .
كان حكيم ( كما أطلقنا عليه ) وافدا مستجدا على العمل السياسي ..لكنه وبسبب وجوده معي في
القضية توثقت علاقتي به. فطوال مدة محاكمتنا التي استغرقت أكثر من سنة مررنا جميعنا بأكثر
من احتكاك بإدارة سجن إسكندرية وخاصة ضابط هناك قبطي اسمه كميل أسرف في اضطهادنا
رغم إننا – من الناحية الرسمية – تحت إشراف المحكمة ( العسكرية ) التي كانت تحاكمنا . هكذا
دخلنا في إضراب عن الطعام منتهزين اتصالنا بالأهالي ووجودنا في حماية المحكمة للحصول
على ما وافقت المحكمة إعطائنا وهي الصحف وكتابة الخطابات..حيث أن مباحث امن الدولة
32 وكان صاحب الفضل في إيجاد هذا العمل هو كمال القلش الذي كانت تربطه بصلاح حافظ (
رئيس التحرير وقتها ) علاقات قديمة خاصة أن كمال وصلاح قضيا سنوات طوال في معتقلات
وسجون ناصر !
وبالتحديد قسم مكافحة الشيوعية بقيادة ضابط اسمه عشوب كانت تسيطر وما تزال على السجون
في مصر .
في الواحات التي جئناها بعد الأحكام وتعرفي بكمال وصنع لله انضم أو ضممت أنا - لااذكر –
حكيم إلى مجموعتنا ( التي عّرفت بعد ذلك بين الرفاق ، بأنها متمردة على الواقعية الاشتراكية
..وقد أشار صنع لله في كتابه يوميات الواحات إلى ذلك )
لكن حكيم لم يذهب معنا إلى السد العالي لأسباب خاصة به لا أتذكرها الآن !
64 ) فقد قدمت إلى الواحات مترحلا نمن - تعرفت على كمال في زنزانة معتقل الواحات ( 62
سجن إسكندرية بعد صدور الأحكام في قضيتنا.أ أسكنتني الحياة العامة 33 في الزنزانة التي كان
مسئولها السياسي شريف حتاتة الذي تعرفت به لأول مرة هناك 34
أخوالي وستي وخالاتي
إبان إقامتي في القاهرة كنت أذهب بين وقت وآخر إلى الإسكندرية ازور آمي وأخي ( رمسيس )
وأخوالي وخالاتي وستي التي كان اسمها قبطيا قديما ( أراني ) وكنا نحن الأطفال نحوله إلى
أرانب فتتظاهر بالغضب وتهم بمطاردتنا ( ذلك الوقت كانوا يعيشون في الدلتا ونحن ما نزال
في السودان ) .. أحببت رائحة ستي .. في ثوبها الأسود السابغ .. رائحة سجائرها التي كانت
تضعها في علبة معدنية داخل أثوابها المتعددة التي كانت ترتدي . تعصب رأسها بطرحة بيضاء
وتراقب " البنات " خالاتي الاثنتين روجينا ولولو وهما تقومان بأعمال البيت . تقبع متربعة في
الصالة فوق الكنبة الأسيوطي .أمامها طاولة صغيرة عليها سبرتاية وعدة القهوة التي تطحن بنها
. طازجا في مطحنة نحاسية طويلة 35
ماتت ستي ( افضل ستي عن جدتي ) وأنا في السجن. وحزنت كثيرا لذلك فهي جزء هام من
حياتي العائلية ومن تاريخ أسرتي وتاريخي أنا الشخصي.
. كما ماتت لولو وأنا في بيروت في تغريبتي الطويلة خارج مصر من 1970 حتى 1982
لولو كانت تواظب على حضور محاكمتي ونحن في الإسكندرية محكمة عسكرية برياسة الفريق
هلال عبد لله هلال ) تأتي متطأمة تمضغ لبانة بلدي وتحمل لي خرطوشة سجائر وتشير
بأصبعيها علامة النصر !
لولو هي التي أدخلتني إلى العوالم السحرية لألف ليلة بروايتها وحكيها الشفاهي قبل النوم وأنا ما
أزال في سنوات مراهقتي الأولى المختلطة بطفولتي وصباي .
لم أتعرف على أعمامي .. فقد كان أبي يذهب بمفرده إلى الصعيد ( ملوي ) لزيارة أهله . آمي
كانت لا تريد لنا التعرف على أهله الفلاحين . لذا ارتبطنا بأخوالي الموظفين المتعلمين. لكني ما
أزال اذكر واحدا من أعمامي حينما توقف قطارنا المصري ونحن في اجا زتنا من السودان ..
توقف في ملوي – على ما أظن – وهرع إلينا اعممانا الذين كانوا يعرفون موعد قبولنا وواحد
منهم حافيا بلا حذاء . ساعتها انهرت فزعا من هذا الحافي.
لكن بعد سنوات طوال اكتشف أن أولاد أعمامي يعملون في بيع قطع غيار السيارات في القاهرة
. اتصل بهم واذهب لزيارة أسرة منهم تقطن في شبرا .. لكني لم اكرر الزيارة ولعلهم أيضا لم
يواصلوا فكرة التعرف عليّ. كنت قد استقريت في هولندا وأجيب بغموض على أسئلتهم حول "
33 أسس الشيوعيون المصريون عبر تقاليد حبساتهم الطويلة تنظيما داخليا أسموه الحياة العامة . أحيانا يكون هذا التنظيم مظلة لكل
التنظيمات السياسية الشيوعية في السجن وأحيانا يكون فئويا ..انه التنظيم المسئول أساسا عن الاتصال بإدارة السجن أو المعتقل ..وعن
تسكين وإقامة المعتقلين وعن توزيع المواد الغذائية عليهم ..الخ
34 من تقاليد الحبسات الشيوعية أيضا تعيين مسئولا سياسيا لكل زنزانة ..وغالبا ما يقيم أفراد التنظيم الواحد مع بعضهم البعض وخاصة
في معتقل مفتوح مثل الواحات
35 حينما كنت في سرايا فو صيف 2008 تجولت في سوقها العربي واشتريت مطحنة بن مشابهة للذكرى!
استثماراتي " المالية هناك .. لعلهم اكتشفوا إني مفلس واني مجرد كاتب أو جورنا لجي .. فتنازلوا
عني كما تنازلت أنا عنهم!
ما زلت أحلم بين وقت وآخر بأخوالي في الإسكندرية . احلم بأنهم غيروا عنوان سكنهم وان
خالي شاكر أخذني إلى عنوانهم الجديد ولكني أضعته ، فأدور حائرا في مناطق لا أعرفها في
الإسكندرية ابحث عن عنوانهم . حينما استيقظ اشعر بكآبة وحزن . 36
لعل هذا الحلم راجع إلى أن هذه الأسرة قد رحلت عن الحياة واني لم أكتشف مدى أهميتها
الحيوية لي ( مثل أشياء كثيرة ) إلا بعد فقداني لها.
في السنوات الأخيرة – هذه – اكتشف دور الأحلام في حياتي وأنا نائم لكني اسرح في عوالم
أخرى بروحي. فأحلم غالبا بأمواتي ..أبي وأمي وخالاتي وأخوالي وستي وأصدقائي الذين رحلوا
مثل كمال القلش. وقبله عبد الحكيم قاسم .
في البداية كانت الأحلام مزعجة وبها الكثير من المواقف " التأ نيبية " يؤنبوني على أشياء
غامضة اعرف إني ارتكبتها.. لكن بعد سنوات من التأنيب . أصبحوا متسامحين معي ..أحيانا
نتبادل " معلومات " حول أشياء وتواريخ وحوادث . أنساها حينما استيقظ لكني لا اشعر بكآبة أو
حزن إلا فيما ندر. اشعر بفرح وإحساس بالتواصل واني حللت عقد كثيرة متعلقة بالموت
والخوف منه ورهبته . أحيانا يأتي إلي في الحلم أصدقائي أحياء . نتسامر قليلا .. أو نتأمل
بعضنا البعض من على بعد ونختفي .
أحلام هادئة ليست بها ضغائن .
أحيانا قليلة احلم بأسرتي الصغيرة . هذه أحلام تتركني اتسائل – في الأغلب – عن معانيها.
أحيانا أصل إلى نتائج ما ..وأحيانا لا أصل إلى شيء .
لكني أتعامل عادة مع الأحلام باعتبارها رسائل لها خصوصيتها .
وكنت منذ شهور قد بدأت كتابة " نص ما " بعنوان كنت اضحك في حلمي اربط بين الحلم
والواقع .. لكني توقفت لإحساسي بأني ما أزال غير مستعد للدخول في هذه المنطقة التي
تستهويني بقوة لكنها تخيفني أيضا .
صديق صبا سوداني ( نبيل ميخائيل – يعيش الآن في المانيا منذ منتف الخمسينيات للدراسة في
المانيا الشرقية ثم العمل بواحدة من جامعاتها ) هو الذي قادني إلى الشيوعية .
كانت أسرتي قد انتقلت بعد مرض والدي من شبراخيت إلى القاهرة . تنقلنا في إحيائها حتى
استقرينا في شقة حقيرة معتمة في دور ارضي بحب دير الملاك الذي يفتح على الحي الراقي
"حدائق القبة " .
دير الملاك
كان دير الملاك بداية تاريخية لظهور الأحياء العشوائية في القاهرة . لكنها كانت تظهر على
استحياء. فالحي يحيط بالدير الذي اتخذ اسمه منه ( لا أعرف أي ملاك ) ..كنا قبل ذلك نعيش في
الظاهر على مشارف الفجالة. حيان لهما ذاكرة ولهما شخصية . لكن دير الملاك حي بلا ذاكرة
وبلا شخصية . به جزءان .جزء فلاحي يسكنه فقراء الحي وهذا الذي أقمنا به عند قدومنا. يسكن
قبلتنا " قفاص " يصنع الأقفاص من الجريد .. يحملها على عربة يد . اسمع كل يوم دعاء "
حريمه " يقلن له بأصوات واضحة " روح يا شيخ ربنا يفتحها في وشك ويوسع رزقك "
كنت أنا ساقط ثانوية عامة ( توجيهي ) ادرس في مدرسة ليلية في شبرا. مراهق مكلوم القلب
36 وأنا أعيد كتابة هذا النص في نوفمبر 2012 أتذكر إني منذ سنتين تقريبا ذهبت إلى الإسكندرية لكي أقيم بها بعض الوقت في الشتاء
..وقادني السمسار إلى شارع تبينه بعد ذلك هو ذات الشارع الذي كانت به شقة أخوالي وخالاتي (!)واذكره باسمه القديم "دانتيمارو " وهو
المهندس المعماري الايطالي الذي بنى كورنيش الإسكندرية !
والفؤاد ، ساخط على الحياة وعلى أسرتي وعلى الكنيسة معاتبا غاضبا على الرب لوصولنا إلى
هذا الدرك الاقتصادي .
يمر على شارعنا بائع فجل متخلف عقليا .. يمر يوميا وهو يجعر" ابويا قال لي بيع الثلاثة
بتعريفة " .. ترسلني آمي إلى الحقول المجاورة ومعي قرش صاغ أو نص فرنك ( قرشين )
اشتري من المزارعين فجلا وجريجرا وطماطما .اشعر بالخجل من المسبغة . ترسلني إلى الدكان
البعيد للقبطي الذي يبيع على النوتة ( أي بالدين ) ونشتري منه خبزنا اليومي والطحينة
المخلوطة بالعسل والجبن الفلاحي والزيت والسكر والشاي والبطاطس والعدس والفول المدمس
المستوي من قدرة يضعها على بابا الدكان. يغالطنا ونغالطه في الحساب . يرتدي دائما جلباباه
القذر وتساعده امرأته القبيحة .
أحيانا احلم بالدكانة وببضاعتها الهزيلة .. وبتوهاني في عزبة القرود التي كانت تفصل دير
الملاك عن العباسية والتي كان يسكنها القرداتية بقرودهم ( نحن نتكلم هنا عن قاهرة منتصف
الخمسينات) حينما احلم بتوهاني في عزبة القرود يكون الحلم فظيعا ومخيفا .. أرى القرود
مكشرة عن نواجذها وأصحابها يوعزون إليها بمطاردتي يحاولون أن يأسروني لكي
يستعبدونني عندهم واعمل مع القرود والقرداتية .
حينما رجعت من الخارج اكتشفت أن العزبة اختفت وظهرت بدائل لها .. سلالم مثلا لمحطة
مترو جامعة عين شمس ومبان كثيرة تتبع الجامعة ..الخ ..لكن مبنى القبة الفيديوية ( أو لعلها
الخديوية وتحرفت ؟) بقي كما هو ..كنا نعبر إليه أنا و عبد المؤمن بيومي وهو في الأصل
صديق لإسماعيل خليفة الذي زاملني منذ اليوم الاول في قسم الصحافة وتصاحبنا ؛ مؤمن القادم
من عزبة منصور أيضا العشوائية التي نبتت حول قصر الريحاني هناك( نجيب الريحاني ) لنتجه
أنا وهو إلى حي الوايلي في العباسية حيث كان يقيم إسماعيل خليفة .. هناك عند إسماعيل نشرب
الشاي وندعي المذاكرة ونحن نقرا بانبهار رواية عبد الرحمن الشرقاوي المسلسلة " الشوارع
الخلفية " التي كان ينشرها في صحيفة الشعب ( أو الجمهورية ..لا أذكر )
وهكذا من خلال إسماعيل ومؤمن تعرفت على عوالم وطبقات قاهرية جديدة من أصول فلاحية
..طبقات يقال لها " مستورة " وهي بالكاد قادرة على مواصلة الحياة اليومية .
تلك السنوات تعرفت – من على بعد- على عبد العظيم أنيس ، حينما ترشح للنيابة في
مجلس الأمة ( البرلمان الناصري) في حي العباسية – أو الوايلي أو كليهما على ما أظن - وكنت
أنا أصبحت عضوا عاملا في التنظيم الشيوعي " طليعة العمال " وهم طلبوا من نبيل الذي طلب
مني وطلبت أنا من إسماعيل ، أن يجد مكانا في العباسية لعبد العظيم أنيس لكي يجعله مقره
الانتخابي ( اعتقد أن هذا كان عقب العدوان الثلاثي عام 1956 . كانت هذه سنتي الأولى في
الجامعة .. في قسم الصحافة !)
وجد إسماعيل مقرا لعبد العظيم. كنت أشركت إسماعيل ومؤمن في " اكتشافاتي " السياسية عبر
الشيوعية . لم يقتنعا تماما لكنهما استمعا إلى ترهاتي بصبر . جمع بيننا ثلاثتنا حب القراءة
وأسرة إسماعيل المضيافة.
عبد الرحمن الأبنودي
اعتُقلت أنا في نهايات ديسمبر 1960 أما إسماعيل فقد واصل مصيره المحتوم وانتظم في جيش
مصر .. لسنوات طوال حيث أخذوه أيضا إلى اليمن.. ثم استطاع أن يفلت ويعمل مترجما في
الأمم المتحدة . أما مؤمن فقد التقيت به بعد خروجي من السجن .كنا جميعا تغيرنا إلى أشياء
وأشخاص آخرين .كان كريما ونبيلا ..إذ قدم لي مبلغا ماليا ليساعدني على الصمود المؤقت كان
مؤمن قد التحق فبل ذلك بمعهد صناعي أهله لكي يصبح خراطا في المصانع الحربية.. بقي
هناك حتى وافاه الأجل من مرض السرطان ( حسب ما عرفت ) . فقد قلت مرات التقائي به
وبغيره من الشلة القديمة . رأيته بعد ذلك مرة واحدة في شقة إسماعيل خليفة في واحدة من
إجازات إسماعيل قادما من أمريكا .
ذات يوم أخذني مؤمن بعد الإفراج عني إلى حي الصين الشعبية القاهري .. عرفت منه لماذا
أطلق الأهالي هذا الاسم .. فالزحام المرعب والضجيج والفقر كانوا ( ولا يزالوا) سمة هذا الحي
..هناك تعرفت للمرة الأولى بعبد الرحمن الأبنودي في شقة صغيرة كان يقيم بها في الدور
الأرضي .لم يكن لقاء موفقا وكنت التقي بالأبنودي بعد ذلك بالمصادفة . لم يحرص كلانا على
توثيق العلاقة فقد تفرقت بنا طرقنا .
لأقرأ اليوم ( 30 نوفمبر 2009 ) في المصري اليوم قصيدة كتبها الأبنودي عن فؤاد حداد..
هي قصيدة رد عرفان بالجميل العظيم الذي أسبغه فؤاد حداد على شعر العامية في مصر مما
حدا بالأبنودي أن يخاطبه بصفته " إماما يصلون وراءه " يعترف الأبنودي( الذي لا يعرف
بإمامة الشعر لغيره !) انه كتب هذه القصيدة 1998 لينشرها ألان في نهايات 2009 .. ولعل
الأبنودي وتاريخه أهم واصدق نموذج على علاقة المثقف اليساري بالسلطة في مصر وبجماعته
اليسارية أيضا . فقد كان عشق الأبنودي المرضي للسلطة وبريقها هو الذي دفع به إلى "مصاحبة "
وزراء الداخلية منذ ناصر وحتى مبارك (!) وهذا ليس اتهاما له بالعمل معهم .. لكنه لا يستطيع
البعد عن السلطة .
وقد كتبت تعليقا على القصيدة التي قرأتها في النيت ما مفداه بان من فات قديمه تاه وان
الأبنودي بعد أن خبر العز والفخفخة وتصفيق الأمراء والرؤساء .. رجع إلى " نجعه " والى
نخلاته القليلات المثمرات .
اعرف أن الأبنودي في عزلته الآن يطبب جسده وروحه .أتمنى له الشفاء وحسن المآل .لكنه
أيضا عليه أن يكتب شيئا صادقا للقراء عن حياته وتقلباته وتقلباتها ! 37
في مفتتح القصيدة الطويلة يقول الأبنودي
ليؤمُّكم أقْرأُكُم لكتاب لله عز وجلّ.. فإن كنتم فى القراءة سواء، فليؤمُّكم أعلمُكم بالسنّة، فإن كنتم فى »
حديث شريف .« السنّة سواء، فليؤمُّكم أقدمُكُم هجرة، فإن كنتم فى الهجرة سواء، فليؤمُّكم أكبركُم سناً
إنت الإمام الكبير.. وأصلنا الجامع..
وانت اللى نقبل نصلى وراك فى الجامع.
..فقير يا مولاى.. ورازقنا حرير وياقوت 38
فؤاد حداد
ومسرح معتقل الواحات
تعرفت على فؤاد حداد في معتقل الواحات في السنتين اللتين قضيتهما هناك ما بين 62 و 64
بعد ترحيل قضيتي وصدور الأحكام عليها من سجن إسكندرية. تصاحبنا رغم إني كنت مجرد
شاب في منتصف عشريناته وليس لي أي إنجاز ولو حتى بسيط في محال الأدب أو الصحافة .
اختارني حسن فؤاد لكي امثل "عيشة الدوغري " في مسرحية نعمان عاشور عيلة الدوغري . كان
علي الشريف ( الذي اختاره يوسف شاهين ليمثل في "ارض " الشرقاوي " معنا في الحبسة . هو
الذي شجعني لكي أقوم بالتمثيل الذي أحبه وأهابه . صمم المسرح المهندس فوزي حبشي وبنيناه
37 تواصل الأبنودي بعد ذلك مع ثورة وثوار خمسة وعشرين يناير وكتب قصائد عذبة
38 نشرها الأبنودي في الثمانينات في "مختارات الأبنودي " – كما عرفت من تصحيح قدمه لي الصديق سيد محمود الصحافي وأنا
اكتب هذا الكلام !
نحن المساجين بسواعدنا ..عزمنا ليلة الافتتاح مأمور الواحات ومأمور السجن الذي تساهل في
إدخال ما نحتاجه من ثياب وإكسسوارات . كنت أنا ارتدي ثوبا نسائيا وحذاء نسائيا وحلقوا لي
شعر ساقي الخفيف ووضعوا روجا على ا شفتي ..وكانت ليلة جميلة أدخلتي بعد ذلك إلى عالم
المسرح ..
هذه كل انجازاتي أيامها .. لكني استمتعت بشكل خاص باهتمام فؤاد حداد الذي استمعت إلى "
معلقة " أبو زعبل التي كتبها في رأسه في ذاكرته الجبارة . معرفته المهولة باللغة العربية
فصحى وعامية تجعلك تقف خاشعا أمامه ..هو البسيط الضحوك ابن النكتة .
بعد السجن التقيت به .. ثم جاء وقت أعوزته الحاجة أن يعمل مترجما بالقطعة في منظمة
التضامن الأسيوي الأفريقي من الفرنسية إلى العربية ( يجيد كليهما ) وكان يأتي متوكئا على
ابن من أبنائه .كنت أنا اعمل هناك أيضا باليومية . حينما أراه اهرع إليه احييه واطلب له
مشروبا وابنه .شاعرا بالخجل من عجزي أمامه ومن إحساسي بأنه يستحق الكثير ولم يلق إلا
اقل القليل . أخذتني بسمة الحسيني( التي أسست المورد ) مرة إلى بيته في الحي الضاج "مدينة
الطلبة على ما أظن ) ورأيت شقته البسيطة وبدأت في إقناعي بان انشر له في دار شهدي ( التي
كنت قد أسستها ) أعماله . رحبت مبتهجا لكني لم انشر شيئا له لسباب مالية كانت تواجه الدار
ولمستحقات لم استطع الوفاء بها . هو كان عطوفا ومتفهما ومتسامحا .
وها هو الأبنودي بعد كل تلك السنوات من الصمت بعلن توبته وصلاته خلف أمامه الذي
ألبسهم الحرير والياقوت هو الفقير !
ادوار الخراط
في منظمة التضامن تعرفت على إدوار الخراط بشكل جيد . كنت اشرب قهوة الصباح في مكتبه
وكان هو يشغل وظيفة هامة هناك .
ذهبنا سويا ذات صيفية إلى واحدة من الجزر اليونانية . هو كانت زوجته معه وأنا كنت وحيدا.
قضينا أياما قليلة طيبة نتبادل الأحاديث الطوال ونطعم معا ..نتحادث في الدب والثقافة وما شابه
.. اختلفنا بعد ذلك وانقطع حبل الود بيننا نتيجة وشاية كاذبة ضده صدقتها أنا . لكن حينما
عرفت انه لم يقل ما سمعته ضدي .التقيت به صدفة واعتذرت له عن رعونتي .. تقبل هو
اعتذاري ضاحكا متسامحا.
لعب ادوار الخراط ادوار هامة في تقديم ذائقة جديدة في الإبداع المصري تحديدا حينما بشر
بنظريته " الحساسية الجديدة " بعد أن كنا منغمسين لأذاننا في الواقعية الاشتراكية وما بعدها.
وهو نشر كتابه النقدي الصغير والهام مطبقا نظرية الحساسية الجديدة على أدب السبعينيات .
دار نشر مصرية صغيرة اسمها "دار القاهرة " هي التي فتحت الطريق أمام النشر الصغير
الخاص في مصر ..أسسها علاء سويف ( شقيقته أهداف سويف ) واحمد سيف السلام الذي
أصبح محاميا الآن من محامي حقوق الإنسان في مصر وشخص ثالث ..نشرت الدار لي أول
كتاب بعد
عودتي من بيروت إلى مصر بعنوان " صباح الخير يا وطن " وهو عن شهادتي عن حرب
إسرائيل عام 1982 ضد لبنان.
كتبته في شهر واحد وأنا في استضافة صنع لله إبراهيم في شقته العالية ( الدور السابع بدون
مصعد ) في بداية مصر الجديدة
يا لها من أيام
فقد رجعت إلى مصر مفلسا ومحبطا ..احكي عن الحرب التي ترك العرب فيها إسرائيل تستفرد
بلبنان وبالمقاومة الفلسطينية ..كنت أيضا أعيش راضيا في بيروت ..جئت ساخطا محبطا ..
أقنعني صنع لله أن اكتب شهادتي وأوصلني بدار القاهرة الذين نشروا كتابي مشكورين !
كمال وصنع لله
لا يمكن الكتابة عن شذرات من سيرة حياتي دون أن اكتب عن أهم شخصيتين مؤثرتين في هذه
الحياة هما كمال القلش وصنع لله إبراهيم .
فكما ذكرت ، تعرفت على كمال في معتقل الواحات عام 62 وتواصلت صداقتنا حتى أن رحل
منذ سنوات إلى العالم الآخر. تعرفنا " عزابا " وانتهينا متزوجين ومعنا أولاد صبيان وبنات . ومع
توطد علاقتي بكمال إلا إننا كثيرا ما اختلفنا ويصل خلافنا إلى حد الشجار ومن ثم القطيعة ( غالبا
من جانبي ..إذا يبدو أن تربيت البروتستنتية التطهيرية كانت وما تزال عائقا أمامي في تقديم
تنازلات غير أساسية ) ولكنن وقنا دائما إلى جانب بعضنا في الملمات والأزمات ..فهو لم
يقاطعني بل عاتبني عتابا شديدا على زيارتي إلى فلسطين إسرائيل بينما تسببت هذه الزيارة في
قطع العلاقات بيني وبين صنع لله . وهذا فارق كبير في طبيعة كمال وصنع لله .فكمال متسامح
و"هلهلي " كما نقول ..أي انه لا يقيم وزنا لأشياء يراها غير أساسية حسب رؤيته هو. كما أن
طموحه الأدبي رغم صفاء رؤيته الفنية وقراءاته الكثيرة وكتاباته القليلة تدل على موهبة أصيلة
كامنة .ولكنه أيضا لم يطلق العنان – مطلقا – لنفسه أو خياله . كبلته حياته وعلاقاته الاجتماعية
والسياسية.
أقمت معه وقتا خلال رحلة علاجه الأخيرة في لندن حيث اجرى عملية القلب المفتوح. كانت أياما
مؤلمة لكلينا .. فهو على أعتاب موت غير مؤكد وحياة غير مضمونة . وخلا فترة نقاهته أقمنا
في شقة صديقنا المشترك ؛ الدكتور حسام سعد الدين ..الذي أكرم وفادتنا هو وزوجته الدكتورة
مديحة الصاوي حيث يقيمان ويعملان في لندن .
في أوقات أزمات كهذه تظهر معادن الأصدقاء .
حينما أنهيت دراستي المسرحية في بولندا ..انتهت إقامتي هناك اتوماتيكيا. كان كمال قد سافر
إلى العراق ليعمل في جريدة الثورة.تراسلت معه من وارسو وأقنعني بالقدوم إلى بغداد التي
كانت تستقبل الهاربين من وجه السادات وغضبه. كان ذلك عام 1975 ,,استطعت أن احصل على
توصية من السفير العراقي في وارسو حيث إني أقمت له عرضا مسرحيا بسيطا مع طلاب
مدرسة المسرح بمناسبة ذكرى 14 تموز,
بغداد 1970
رحلت إلى بغداد وفي جيبي دولار أمريكي واحد ( تذكاري بمناسبة ما تتعلق بكيندي ) اعطتينيه
صديقتي البولندية التي تزوجتها فيما بعد( بربارا ) .
كمال وعد أن يستقبلني في المطار لكنه لم يأت وأغاثني سوداني تعرفت عليه في الطائرة نقلني
بالتاكسي الذي استأجره إلى عنوان بيت كمال ..وهناك كان البيت ( المشترك مع أمير اسكندر
وسعد التايه ) مغلقا بالضبة والمفتاح ..انتظرت صابرا في حديقة البيت الصغيرة حتى رجع كمال
وكان معه عرافي تعرفت عليه فيما بعد هو الشاعر صادق الصائغ..
حجة كمال في التأخير انه نسي نظارة النظر في البيت فرجع مرة أخرى من منتصف طريق
المطار ليحضرها ..الخ ..الخ.
استضافني كمال ردحا من الزمن في غرفته وذهب معي إلى لقاء طارق عزيز الذي كان وقتها
وزيرا للإعلام لأقدم له خطاب التوصية البسيط .. قرأ عزيز الخطاب وقدم لي كوبا من الشاي
في مكتبه وكتب كلمة واحدة فوق الخطاب هي " يُنسب " وصافحني مودعا وطلب مني أن اذهب
إلى لقاء مدير الإذاعة والتلفزيون . حينما التقيت كمال في الردهة سألته
" يعني إيه يُنسب " فصاح مهللا ..خلاص يا ابن الكلب اشتغلت ! 39
39 في فصل لاحق سأحكي بالتفصيل عن تجربتي في العراق آنذاك
بعد بضعة أسابيع من اقامتى في العراق ، تركني كمال ليعمل في مجلة المجلة في برلين الشرقية
وقد زرته هناك أكثر من مرة وقضينا أوقات جميلة .
يتميز كمال بالدفء وهو شيء نادر لشخص قضي أكثر من ثمان سنوات متصلة في السجون
والمعتقلات . تزوج – مثلي – على كبر . الصحافة بهرته فركز فيها ..وبالإضافة إلى كسله
التقليدي - بالعكس من صنع لله- لم يهتم بالكتابة .. بل بأكل العيش وبالعلاقات الاجتماعية . لعله
لم يكن واثقا انه يدخل في معمعان كتابة الستينيات مع أن روايته الوحيدة القصيرة ( صدمة طائر
غريب ) تمثل فتحا نادرا في الكتابة .. لم يكرره !
له مجموعتين من القصص القصار متميزة وحساسة .
هو واصل علاقته بصنع لله رغم إحساسه الذي باح لي به أكثر من مرة أن صنع لله لا يسأل
فيه . فهو وصنع لله زميلا تنظيم سياسي من قبل أن يعتقلا .. أي منذ منتصف الخمسينيات
تقريبا ..كان دائما يحاول أن يصلح ذات البين بيني وبين صنع لله وانزعج كثيرا للجفوة
المتواصلة بيننا ..وحينما رفض صنع لله علنا جائزة ملتقى الرواية العربية ..وكان هذا قبل وفاة
كمال بعدة أسابيع ، اعتبر كمال أن هذا نصره الخاص . لعله وجد في هذا الموقف .. تتويجا
لكل ما كان كمال يعتقده ويؤمن به لكنه لم يجرؤ في الإفصاح عنه .
كمال هو الذي حدث صلاح حافظ باحتياجي للعمل. فأنا أقيم في القاهرة معتمدا على معونات مالية
من الأصدقاء . هكذا أخذني كمال للعمل في آخر ساعة ( بالقطعة ) في قسم "إعادة الكتابة " أي أن
مواضيع المحررين تُدفع إلينا لنعيد صياغتها صحافيا ..كانت مكاتبنا في بدرون بآخر ساعة
..من هناك استطاع كمال أن يقنع صلاح حافظ بان يقوم ( كمال ) برحلة مع أول توربين
روسي قادم بالبحر ، متجها عبر النيل إلى أسوان ليتم تركيبه في مولدات كهرباء السد العالي ..
هكذا كتب كمال مجموعة من المع التقارير الصحافية في آخر ساعة عن رحلة التوربين الروسي
عبر الإله حابي !
ثم احدث السادات انقلابه الصحافي والإعلامي وأطاح بقيادات يسارية صحافية ومنها بالطبع
صلاح حافظ لنجد أنفسنا أنا وكمال في الشارع ..حقيقة لا مزاجا ..فقد رفض امن أخبار اليوم أن
نذهب إلى البدرون ونأخذ ما يخصنا من هناك ..وقفنا ببلاهة و غير مصدقين لما حدث بين
ضحك وابتسامات الشامتين بانتهاء عصر كامل في الصحافة ..حيث أقبلت مصر منذ تلك الأيام
على مرحلة جديدة تماما في الإعلام المصري !
وبالنسبة لي أيضا فقد بدأت أفكر في مصيري .
صنع لله إبراهيم
الكتابة عن صنع لله تحتاج إلى "موضوعية " لم تكن من خصالي الأساسية ( سابقا ) لكني في
العقدين الأخيرين من حياتي ، وخلال إقامتي في عزلة من اختياري ، في هولندا ، حاولت أن "
ازرع " داخلي موضوعية ما تقوم الالتفات إلى الجوهر ونبذ التفاصيل الغير هامة لأنه كما يقال
أن الشيطان يكمن في التفاصيل ..أي أن ما يبدو مهما هو في الحقيقة زائف الأهمية.
ولما كانت هذه الشذرات مهمتها ليست تصفية حسابات ما ..وان كنت اعتقد إني في السنوات
الأخيرة أصبحت أكثر تسامحا.. ومع ذلك - وكما قلت - سأحاول جاهدا أن اكتب بموضوعية
عن صنع لله إبراهيم .
فليس بيننا حب مفقود إنما صداقة تعثرت وانكفأت على نفسها نتيحه لصرامة موقف صنع لله من
زيارتي لفلسطين إسرائيل . لن أدخل هنا في تفاصيل لا تعني القارئ عن الزيارة ( التي سأكتب
عنها لاحقا بالتفصيل لكن من زاوية أو زوايا أخرى ) لكن عن الأنواء التي عصفت بالعلاقة ..
رأيت صنع لله للمرة ألولى في سجن القناطر الخيرية ..وهو سجن بارد بكل معنى
الكلمة ..لقربه من المياه ..ولقدم جدرانه التي كانت تنشع بالرطوبة .. وللتكديرة 40 التي أمرت بها
المباحث حيث كنا حفاة .. بلا ثياب مدنية داخلية صوفية أو قطنية غير ثياب السجن .. بلا كتب
سوى القرآن والأناجيل .وبلا كهرباء .. بلا فسحة سوى نصف ساعة في الصباح وساعة في المساء
ثم إغلاق تام .
كان من سبقني من المسجونين والمعتقلين قد خرجوا من مذبحة تعذيب وقتل شهدي عطية
الشافعي في ليمان أبو زعبل .. ثم الفضيحة التي أعقبت ذلك وطارت عبد الناصر وهو في
يوغسلافيا حينما كان ضيفا على البرلمان هناك ..وأعلن رئيس البرلمان الوقوف دقيقة حدادا على
مقتل شهدي 41
لكن من خرجوا من المذبحة كانت أرواحهم أيضا مدماة . وقد كتب صنع لله عن هذه
التجربة في أكثر من مكان خاصة في روايته الأولى الهامة " تلك الرائحة " ثم في يوميات الواحات
.. لكن نتيجة للظروف القاسية التي كنا نمر بها لم نتحادث أو نتعارف خاصة انه كان في تنظيم
. سياسي غير الذي كنت فيه حينما اعُتقلت 42
هكذا لم أتعرف عليه ولم نتصاحب إلا في الواحات.
كان صنع لله صاحب فكرة السفر - بعد الإفراج – إلى السد العالي .كما انه كان صاحب فكرة
سلسلة من الإصدارات نشرف عليها نحن ونمولها من جيوبنا اسمها " كتابات جديدة " وقد كانت
باكورتها روايته " تلك الرائحة " ثم مجموعة كمال القلش القصصية ( أظن كان عنوانها المراهق
) ثم مسرحية لنبيل بدران ( عرفنا عليه كمال ) اسمها السود ..ثم توقفت السلسلة لضيق ذات اليد
.. ولم أكن أنا قد كتبت شيئا هاما فلم أتحمس لنشر شيء لي في السلسلة كذا عبد الحكيم .
واحدة من مزايا صنع لله هي " الدأب " فهو متابع عظيم لما يؤمن به ."كرباج " يلسع ظهور
الكسالى .. وقد " عانينا " من دأبه وكرباجه أنا وكمال الكسالى حينما تهاونا وتكاسلنا في تسليم ما
اتفقنا عليه من حصتنا من الكتابة ،في كتاب السد العالي ..كما عانينا من ذلك أيضا قبل ذلك حينما
أقمنا سويا " مضطرون " في غرفة واحدة باستراحة المقاولين العرب في أسوان ونحن نخطط
ونكتب الكتاب .
السد العالي وتجربة الكتابة اليومية الحية .
كانت تجربة كتاب مشترك ؛ هي تجربة خضتها لأول مرة وكانت صعبة . فانا لم أكن قد تعودت
بعد على النظام في الكتابة وعلى الانتظام فيها.كنت بعتبرها " مزاج " متى جائني وهف عليّ
انصعت له ..لكن بعد ذلك عرفت أن حكاية المزاج والهففان هذه مجرد حجج للكسل . عرفت انه
لابد من التفرغ لها وأخذها بجد جدا وإلا كنت كمن يرقص على السلم. ولم ابدأ الانتظام في عملية
الكتابة إلا بعد سن التاسعة والأربعين ..أي عند بداية استقراري في هولندا والانغماس في كتابة
بيضة النعامة . ولذا ومنذ ذلك الوقت لا يمر عليّ يوم بدون كتابة ..كتابة أي شيء ولو صفحة
أو نصف صفحة كمبيوتر .
40 مع أن السجون تتبع - رسميا – مصلحة السجون - لكن المباحث المصرية لها اليد الطولى في التعامل مع السياسيين ، حتى اؤلئك الذين
ما يزالوا تحت التحقيق وتجربة التعذيب في أبي زعبل ( الآوردي ) خير إثبات على ذلك حيث كان حفلات التعذيب الكبرى تتم بحضور
كبار ضباط المباحث وبتعليمات منهم – أقرا كتاب رفعت السعيد " وقائع التحقيق في مقتل شهدي عطية الشافعي " دار شهدي للنشر وكتاب
فخري لبيب " الآوردي " وكتاب طاهر عبد الحكيم " الأقدام العارية " وغيرهم
41 قالت لي السيدة روكسان الشافعي أرملة شهدي أنها استطاعت أن تسرب خبر مقتله إلى صديقة لها تشيكية يعمل زوجها التشيكي
مراسلا لوكالة الأنباء التشيكية ومن هناك انتشر الخبر
42 كنت كما سبق وان قلت عضوا في تنظيم طليعة العمال الذي أصبح " حزب العمال والفلاحين " ثم انضممت وأنا في القناطر إلى
التنظيم الآخر الذي كان به صنع لله نتيجة لإحساسي بأن زملائي في تنظيمي الأصلي لم يهتموا بي كما يجب وإنهم تعاملوا معي حينما
دخلت السجن بحذر ..هذه أشياء تحدث كثيرا في التنظيمات الماركسية حيث يتم الانتقال من تنظيم إلى آخر غالبا لأسباب شخصية
المهم ..لوى صنع لله ذراعينا أنا وكمال واستطاع أن يحصل على نصوصنا التي التزمنا بها ،
وأعاد هو صياغتها ..وتم طبع الكتاب بعنوان " إنسان السد العالي " إصدار"دار الكتاب العربي
للطباعة والنشر بالقاهرة - 1967 وهي التي أصبحت فيما بعد لهيئة المصرية العامة للكتاب .
تجربة السفر إلى السد العالي تجربة خاصة . العمل هناك تجربة خاصة أيضا ..لكن الأقدار وفرت
لنا المهندس والبناء المصري العظيم إبراهيم زكي قناوي ، الذي تبنانا وأوعز إلى المهندس حسب
لله الكفراوي ( وقتها كان رئيس مجموعة عمل المقاولين العرب في السد) أن يستضيفنا في
استراحة مهندسي المقاولين العرب . هذه الاستضافة - لولاها – لما أكملنا شهر واحد في أسوان.
الاستضافة أبقتنا حوالي ثلاثة شهور في غرفة مكيفة الهواء ووجبات ثلاث مجانا بالإضافة إلى
غسيل ومكوى مجانا أيضا . ميزانيتنا الخاصة كانت هزيلة .
خالي شاكر الذي كان يعمل مراقبا للحسابات في السد العالي هو من قدمنا وشجعنا أن نتصل
بإبراهيم زكي قناوي ، الذي وصل إلى منصب نائب رئيس هيئة السد العالي .
وبدون الترهات التي تقال الآن عن أن الروس هم وحدهم الذين بنوا السد ، فهناك مئات من
المهندسين المصريين الأكفاء شاركوا وأسهموا فعليا وعمليا في البناء , فواحد مثل قناوي شارك
في تعليات خزان أسوان المتعددة وغيره من الخزانات في مصر والسودان. يعرف النيل مثلما
يعرف كف يده .
تجربتنا في السد ونحن- يادوبك - قد تم الإفراج عنا لبضعة شهور خلت ؛ كانت بالغة الأهمية
لكي تظهر لنا وجه مصر الأخرى .. البناءة والشعبية ..ليست مصر المباحث والتعذيب والسجون
والمناورات السياسية .جعلتنا نؤمن بان لو مصر واصلت ذلك الطريق ، لكان مصيرها أكثر
إشراقا وتفاؤلا .. طريق البناء ؛ البنية التحتية ، طريق إشراك الشعب كله في مشروع كبير قومي
يتحدى القوى الدولية التاريخية ويرتبط بالقوى الصاعدة في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية ..
لكن للأسف ؛ كان الاتحاد السوفيتي قد نخر سوس الخراب داخله مثلما لك تكن مصر الناصرية
قد نضجت بعد ..لتواصل طريقها .
وأنا الآن في أوربا التي تزداد توحدا ويمكن عبور حوالي ثلاثين حدود دولية أوربية بدون فيزا
، أتحسر على مآل الوحدة اليتيمة بين مصر وسوريا أو حتى ذبك المشروع المجهض بين مصر
والسودان .
انجاز الكتاب جعلني ..وجعلني اشعر بأهمية ما فعلناه. السد أوحي إليّ بمسرحية النفق ( التي
نشرتها ضمن سلسلة المسرح العربي في عصر صلاح عبد الصبور ورياسته للهيئة العامة
للكتاب ..لكما أن السد أوحى إلى صنع لله برواية "نجمة أغسطس " وتحضرني واقعة طريفة هنا
أن العنوان الأول لتلك الرائحة كان الرائحة العفنة أو شيئا من هذا القبيل ..كنا أنا وصنع لله أيامها
نقيم في فندق كراون بشارع عماد الدين وكان يقيم فيه نجيب سرور . اقترحت على صنع لله
تغيير العنوان بتلك الرائحة . أما عنوان رواية كمال " صدمة طائر غريب " فقد كان عنوان قصة
قصيرة لي بعنوان " صدمة طائر " !
شقة الزمالك
تشاركنا أنا وصنع لله بعد ذلك في شقة في الزمالك تؤول إلى صديقة يونانية من صديقات
روكسان أرملة شهدي . اسمها انجيلا. شخصية لطيفة وحساسة ..كرهت الشقة التي كانت تعيش
فيها مع حبيبها الذي توفى بها ، فأجرتها لنا مفروشة بسعر معقول في تلك الأيام . هو صنع
لله الذي استطاع انتزاع الشقة لنا. غرفتان وصالة وبقية الضروريات . كان صنع لله أيامها
يعمل بشكل منتظم في وكالة أنباء الشرق الأوسط ..وكنت أنا اعمل مترجما إلى العربية من
الانجليزية في وكالة نوفستي الروسية ..وكان صنع لله أيضا هو من قدمني لهذا العمل وزكاني
له. استقرينا في هذه الشقة حوالي سنتين ..ومنها غادر صنع لله إلى بيروت ومن هناك إلى
موسكو ليحقق حلمه الشخصي بدارسة السينما . بدأ بدراسة التصوير .. لكنه لم يكمله ورجع
إلى مصر .كان يدرس معه هناك كل من محمد ملص وعمر أميرالاي المخرجان السوريان (
المعروفان الآن ) وقد تعرفت إليهما في رحلة لي من وارسو إلى موسكو .
حينما غادر صنع لله مصر بقيت بمفردي في الشقة وبدأت أيضا أفكر في أن ادرس المسرح الذي
اكتشفته وأنا في الواحات .. بدلا من كتابتي المتخبطة هذه. عرفت من خلال زميل الواحات السابق
عبد الملك خليل ( كان وقتها يعمل في الأهرام ) عن وجود منحة من اتحاد الكتاب البولنديين
لاتحاد الكتاب المصريين ( كان رئيسه آنذاك يوسف السباعي ) لدراسة اللغة البولندية . تقدمت
إليها مع عبد الحكيم قاسم .شجعنا ادوار الخراط الذي كنت اعرفه معرفة بسيطة أيامها ..وحصلت
على المنحة وتخلف حكم لأسباب عائلية ثم استطاع الذهاب إلى المانيا والعمل هناك كحارس ليلي
.
تجربة بولندا كأول دولة اشتراكية ودراسة المسرح والتعرف بجد وبمتعة على الأنثى في حياتي
تستحق مكانا خاصا بها ..ليس هنا!
عرفت بعد ذلك أن صنع لله استقر في مصر . وحينما كنت مع كمال في العراق أراني رواية
صنع لله الثانية " نجمة أغسطس " فكتبت له بعد أن قرأت الرواية نقدا ساخرا لم أكن أريد سوى
الاستظراف واعتبره هو خارجا عن اللياقة ( عرفت ذلك فيما بعد ) واكتشفت انه غضب من
سخريتي ومن نقدي .. فاعتذرت له وتصافينا .
حينما رجعت من بيروت بعد حرب 82 الإسرائيلية كنت حزينا ومحبطا. التقيت صنع لله في
القاهرة . أصر- هو - أن اترك الشقة المفروشة التي كنت استأجرتها في مدينة نصر وان أقيم معه
في شقته التي ما يزال يعيش فيها حتى الآن في مصر الجديدة . كان قد تزوج.. وأصبح كاتبا
معروفا على المستوى العربي والمصري .
كانت إقامتي معه هامة ومفيدة لي إذ ساعدني في إرجاع شبكة علاقاتي التي تركتها من حوالي
اثنتي عشر سنة تغيبت فيها عن مصر بالإضافة إلى أصدقاء له لم أكن أنا اعرفهم .
دار شهدي للنشر وأرملة شهدي وابنته حنان
اتصلت بروكسان التي كنت اعمل عندها ومعها قبل مغادرتي مصر حيث أسست أول جاليري
تجاري في القاهرة هو " سفر خان " وكان محي الدين اللباد هو الذي كتب لافتة المحل! في سفر
خان تعرفت على أهم فناني مصر من الأحياء ومن الأموات أيضا . قبل ذلك كان شادي عبد
السلام يأتي إلى الدكان الذي كان مكتبة هامة للكتاب الأجنبي ويشتري كتبه.كان صديقا لها
..مثلما كان صلاح أبو سيف ومحمد عودة وعبد الرحمن الخميسي ..وقد تعرفت عليهم وتصادقنا
أنا وعودة ثم حينما عملت في بغداد التقيت الخميسي هناك مع محمود السعدني واحمد عباس صالح
وغيرهم من الإنتلجنسيا المصرية . ولسباب غامضة تواصلت علاقتي بعودة والخميسي ولن
تتواصل مع الآخرين.
كانت روكسان هي من قدمت اقتراحا بمشروع إنشاء دار نشر تحمل اسم شهدي ..كانت قد
كسبت قضية رفعها لها احمد الخواجة ونالت تعويضا على مقتل شهدي قدره أربعة عشر ألفا
من الجنيهات. هي رأت أن تستخدم هذه النقود في إحياء اسم شهدي من خلال الدار .كانت
فكرتها أن نعمل سويا أنا وصنع لله في تأسيس الدار. وافق صنع لله في البداية لكنه انسحب
بسرعة وقال انه لا يريد أن بشغل نفسه بشيء سوى الكتابة .
هكذا اكتشفت لأول مرة وجها آخر لصنع لله .. الالتزام الذي لا يحيد عن الهدف من اجل إتمام
. مشروعه الشخصي : الكتابة وكان ذلك أواخر عام 1982
مشكلة مسرحة رواية اللجنة
ثم حدث أول احتكاك جاد بيننا حينما اقترحت عليه عمل مسرحة لرواية اللجنة التي اعتبرها
واحدة من أحسن أعماله وأهمها وواحدة من أحسن ما كُتب بالعربية عن "فضاء كافكاوي " كهذا
تحمس هو ..وعرفته على مراد منير المخرج والتقينا بمراد في بيته في مصر الجديدة وقدمت له
تصوري .. كما كنت أقدم لصنع لله المسودات .. رفض مراد مسرحتي للحنة واعتبرها "
سياسية صارخة " وقال انه يريد مسرحية مثل تلك التي يقدمها فؤاد المهندس وفايز حلاوة. قال
أنها مسرحية للمسرح الطليعي .وما اكتبه وهو يريدها للمسرح التجاري. لذا انسحبت من
التعامل مع مراد لأني اكتشفت أن كل منا ينظر إلى المسرح بمنظور مختلف.
اذكر ذات مساء التقيت بسيد حجاب وحياة الشيمي 43 وانطلقنا لنشاهد فيلما من أفلام مهرجان
القاهرة السينمائي في سينما فندق ماريوت. بالصدفة كان في الصالة مراد منير الذي قال لي
بشماتة انه اتفق مع صنع لله انه الأخير يقوم بمسرحة نصه الروائي وانه اتفق معه أيضا أن لا
يخرجه سواه وان الممثل الأول سيكون نور الشريف الذي سينتج المسرحية . جاء صنع لله وكنت
منزعجا من موقف مراد السابق والآني . سألته أمام الحاضرين عن صحة هذا الكلام .. فلم يريد
أن يؤيد أو ينفي بل ادعى إني ادخله في حواديت مزعجة حسب تعبيره.
تأكدت فيما بعد من صحة كلام مراد. وعاتبت صنع لله وكان لقائنا عاصفا, سافرت إلى
امستردام بعد أن طبعت المسرحية على حسابي عدة مئات بالرونيو خوفا من أن ينتحلها احد.
اعطيتها عنوان " الراجل اللي أكل بعضه " متخذا من المشهد الأخير من الرواية اسم المسرحية
.. ثم افاجيء ببرقية من صنع لله تقول ما معناه أن افتتاح مسرحية الراجل اللي أكل بعضه على
مسرح الطليعة في المسرح القومي يوم كذا ..( أيامها لم نكن نعرف الكمبيوتر أو الميل ولم يكن
عندي فاكس ) ترجمت البرقية لزوجتي التي كنت قد حكيت لها ما حدث بين وبين صنع لله
.. قالت انه بإمكانها أن تدبر لي نقود السفر إلى مصر لكني رفضت وقلت لها لست يوجين
أونيل أو آرثر ميللر حتى أسافر عبر القارات لأحضر افتتاح مسرحيتي 44 .ز وحينما سافرت إلى
القاهرة كان عرض المسرحية قد انتهى ( مجرد شهر واحد) .. وقال لي صنع لله أن فرقة
مغربية قدمت النص ممسرحا ورآه لكنه يعتقد أن النص المصري الذي كتبته أنا أحسن ..هكذا
قال..
ثمة تواريخ وأحداث غير مرتبة بوضوح في ذهني عن العلاقة بيننا .. لكنها تواصلت بشكل ما
حتى مرض كمال القلش الأخير .. ثم سافرت أنا إلى فلسطين إسرائيل ..تعاتبنا ثم أحسست انه
لا يريد لقائي ..فطلبت من كمال أن يتأكد من هواجسي فأكدها لي وهو ليست له مصلحة في
الوقيعة بيننا بل على العكس كان دائما يحاول إصلاح ذات البين..
وحينما رفض الجائزة كنت موجودا في القاعة ..وحينما وقف في الخارج يحيط به المهنئون ..
اقتربت منه وهنأته وكان ذلك في حضور الكاتب احمد أبو خنيجر الذي قدم من أسوان حيث يقيم
لحضور مؤتمر الرواية .
ما حدث ويحدث بعد ذلك غير هام سوى انه يترك غصة في القلب !
43 حياة الشيمي صحفية وممثلة ومترجمة ..آخر أدوارها المسرحية كان دور البطولة في مسرحية يخرجها مراد منير ويشاركها في البطولة
صلاح السعدني ومحمد منير المطرب المشهور .. المسرحية كانت تمصير لمسرحية بريخت أوبرا الثلاث مليمات .
44 اخرج المسرحية المخرج سيد طليب الذي تعرفت عليه بعد ذلك وعلى الممثلين مجموعة العمل
أميل حبيبي ومسرحة روايته " الوقائع الغريبة .."
التقيت إميل حبيبي للمرة الأولى في براغ حوالي عام 83 أو 84 أي بعد خروجي من حصار
بيروت واستقراري في القاهرة .كنت ما أزال "غير مستقر" في القاهرة التي رجعت إليها بعد
اثنتي عشر سنة غياب متصل . وجدتها مدينة مزعجة ومضجة وقذرة . لذا قررت أن أسافر إلى
براغ لألتقي بعائلة عراقية اعرفها منذ كنت في بغداد ، هو الشاعر صادق الصائغ وزوجته
الصحفية والكاتبة سعاد الجزايري . كنت اعرف صادقا قبل زواجه من خلال كمال القلش . ثم
تواصلت صداقتنا في غيبة كمال في المانيا وبعد زواج صادق من سعاد. ساهمت بشكل متواضع
في هروب صادق ( الشيوعي الذي كان يعمل في صحيفة الحزب "طريق الشعب " ) من بغداد
إلى بيروت ثم التقيت به وبزوجته التي كانت وقت هروبه في الخارج ..التقيت بهما كثيرا في
بيروت التي التجئا إليها من عسف صدام حسين ..وكنت اطعم وأبيت في شقتهما البيروتية الصغيرة
. عرفت بعد ذلك أنهما استقرا في براغ وراسلتهما ورحبا كعادتهما بي .
في براغ كان صادق يعمل في مكاتب اتحاد الشبيبة العالمي وهو الذي عرفني على إميل حبيبي
الذي كان في زيارة لبراغ .
كنت قد قرأت المتشائل بإعجاب لا متناه لها وله. لذا حينما التقيته ووجدته ودودا مرحا كريما
.. مضيافا انطلقت ابدي إعجابي بالرواية وقلت له كيف إني أفكر في تحويلها إلى نص مسرحي 45
أعجب الرجل بالفكرة وشجعني . ثم التقين به بعد سنوات في القاهرة حيث أتى محاضرا وضيفا .
أعطيته النص المسرحي وكنت قد فرغت منه وقرأه في ليلة واحدة وابدى إعجابه بها وحمسني
لتقديمه على المسرح. للأسف لم يتحمس له احد سوانا!
التقيت به للمرة الأخيرة في امستردام حيث لبيت دعوة كريمة على العشاء من سفيرة فلسطين
وقتها في هولندا السيدة ... وهي زوجة الكاتب والناقد الأدبي المغربي ........ وكان نجم العشاء
الصغير إميل حبيبي .
أهمية كتبات حبيبي الأدبية ( عندي معظم أعماله القليلة ) انه يكتب خارج السطر ..أي بشكل غير
تقليدي . وأنا الآن أعيد كتابة النص المسرحي ( حبيبي يا متشائل ) اكتشف كيف انه كان متقدما
جدا وما يزال على أقرانه من فلسطينيين وعرب .
هاجمت أقلام مختلفة - بعضها يساري – إميل حبيبي حينما قبل الجائزة الإسرائيلية الكبرى
الأدبية باعتباره "خائنا وانهزاميا " ..الخ بل أن وائل عبد الفتاح كتب في أخبار الأدب يضعنا
سويا في خانة واحدة 46 وكذا حدث هجوم مماثل على الكاتبة المناضلة فريدة النقاش لأنها اشتركت
مرة في الكتابة في مجلة ( أو صحيفة ) الحزب الشيوعي الفلسطيني ..العربي!
هذه مأساة مصرية وعربية بامتياز .. رغبة بدائية ومتوحشة في الهجوم على من يُعتقد بأنهم "
مطبعين " أو حتى " ليسوا معنا فهم ضدنا " لا تعترف الثقافة العربية بحق الاختلاف ..أنها ثقافة
القبائل التي يقول شعرها وشعرائها
ألا لا يجهلن احد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين
ونشرب ان وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
إذا بلغ الوليد لنا فطام تخر له الجبابرة ساجدينا .
( الأبيات لعمر بن كلثوم التغلبي )
45 كتبت النص المسرحي للمتشائل إثناء كتابتي النص المسرحي للحنة. المتشائل أسميتها مسرحيا "حبيبي يا متشائل " ..طبعتها أيضا طبعة
محدودة ثم ضاعت مني خلال سفرياتي وانتقالاتي. وجدتها أخيرا عند سوداني مسرحي يقيم في امستردام وتفضل مشكورا بإعطائها لي .
اعمل – الآن – على تطوير النص المسرحي الذي كتبته عام 1998
46 اعرف أن وائل عبد الفتاح يفكر الآن بشكل مختلف فقد تصاحبنا مرة أخرى بعد جفوة المقال
ل . ا ال ه ل أن ي ق الأرض ق ة ف دماء ف ت وس
ة ي ر ازع ي . ت ل ح إم عاش ورق فا ح إلى ح ل وصل ئ إس ا اها إلى فل ي إ في رحل ا ح
الأرض ا ها ار ته م م وال ازور ف ر فل زوار الق م ي ل ه .. ل ه وأن اح ( ما ) أن ازور ق
ة ون غ ي ب ه في قل عليّ أن أت ا ا ع م أني إذا أردت ت قاد اع ..
أميل حبيبي
التقيت اميل حبيبي للمرة الأولى في براغ حوالي عام 83 أو 84 أي بعد خروجي من حصار
بيروت واستقراري في القاهرة .كنت ما ازال "غير مستقر" في القاهرة التي رجعت إليها بعد اثنتي
عشر سنة غياب متصل . وجدتها مدينة مزعجة ومضجة وقذرة . لذا قررت أن اسافر إلى براغ
لألتقي بعائلة عراقية اعرفها منذ كنت في بغداد ، هو الشاعر صادق الصائغ وزوجته الصحفية
والكاتبة سعاد الجزايري . كنت اعرف صادقا قبل زواجه من خلال كمال القلش . ثم تواصلت
صداقتنا في غيبة كمال في المانيا وبعد زواج صادق من سعاد. ساهمت بشكل متواضع في هروب
صادق ( الشيوعي الذي كان يعمل في صحيفة الحزب "طريق الشعب " ) من بغداد إلى بيروت ثم
التقيت به وبزوجته التي كانت وقت هروبه في الخارج ..التقيت بهما كثيرا في بيروت التي التجئا
إليها من عسف صدام حسين ..وكنت اطعم وأبيت في شقتهما البيروتية الصغيرة . عرفت بعد ذلك
أنهما استقرا في براغ وراسلتهما ورحبا كعادتهما بي .
في براغ كان صادق يعمل في مكاتب اتحاد الشبيبة العالمي وهو الذي عرفني على اميل حبيبي
الذي كان في زيارة لبراغ .
كنت قد قرأت المتشائل بإعجاب لا متناه لها وله. لذا حينما التقيته ووجدته ودودا مرحا كريما
.. مضيافا انطلقت ابدي اعجابي بالرواية وقلت له كيف اني أفكر في تحويلها إلى نص مسرحي 47
اعجب الرجل بالفكرة وشجعني . ثم التقين به بعد سنوات في القاهرة حيث اتى محاضرا وضيفا .
اعطيته النص المسرحي وكنت قد فرغت منه وقرأه في ليلة واحدة وابدى اعجابه بها وحمسني
لتقديمه على المسرح. للأسف لم يتحمس له احد سوانا!
التقيت به للمرة الأخيرة في امستردام حيث لبيت دعوة كريمة على العشاء من سفيرة فلسطين
وقتها في هولندا السيدة ... وهي زوجة الكاتب والناقد الأدبي المغربي ........ وكان نجم العشاء
الصغير اميل حبيبي .
أهمية كتبات حبيبي الأدبية ( عندي معظم أعماله القليلة ) انه يكتب خارج السطر ..اي بشكل غير
تقليدي . وأنا الآن أعيد كتابة النص المسرحي ( حبيبي يا متشائل ) اكتشف كيف انه كان متقدما جدا
وما يزال على اقرانه من فلسطينيين وعرب .
هاجمت اقلام مختلفة - بعضها يساري – اميل حبيبي حينما قبل الجائزة الإسرائيلية الكبرى الأدبية
باعتباره "خائنا وانهزاميا " ..الخ بل أن وائل عبد الفتاح كتب في اخبار الأدب يضعنا سويا في
خانة واحدة 48 وكذا حدث هجوم مماثل على الكاتبة المناضلة فريدة النقاش لأنها اشتركت مرة في
الكتابة في مجلة ( أو صحيفة ) الحزب الشيوعي الفلسطيني ..العربي!
هذه مأساة مصرية وعربية بامتياز .. رغبة بدائية ومتوحشة في الهجوم على من يُعتقد بأنهم "
مطبعين " أو حتى " ليسوا معنا فهم ضدنا " لا تعترف الثقافة العربية بحق الاختلاف ..انها ثقافة
القبائل التي يقول شعرها وشعرائها ألا لا يجهلن احد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلين
ونشرب ان وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
اذا بلغ الوليد لنا فطاما
47 كتبت النص المسرحي للمتشائل إثناء كتابتي النص المسرحي للحنة. المتشائل أسميتها مسرحيا "حبيبي يا متشائل " ..طبعتها أيضا طبعة
محدودة ثم ضاعت مني خلال سفرياتي وانتقالاتي. وجدتها أخيرا عند سوداني مسرحي يقيم في امستردام وتفضل مشكورا بإعطائها لي .
اعمل – الآن – على تطوير النص المسرحي الذي كتبته عام 1998
48 اعرف أن وائل عبد الفتاح يفكر الآن بشكل مختلف فقد تصاحبنا مرة أخرى بعد جفوة المقال
تخر له الجبابرة ساجدينا .
( الأبيات لعمر بن كلثوم التغلبي )
وسوف تجري دماء كثيرة فوق الأرض قبل أن يزهق الباطل .
حينما كنت في رحلتي اياها إلى فلسطين إسرائيل وصلت إلى حيفا حيث عاش ورقد اميل حبيبي .
تنازعتني رغبة ( ما ) أن ازور قبره وأن احييه .. لكني لست من زوار القبور فلم ازر فبري والدي
منذ موارتهمها باطن الأرض ..باعتقادي أني إذا اردت تكريم ميتا عزيزا عليّ علي أن اتذكره في
قلبي بدون غصة.
لن ادخل هنا في جدل حول " مفهوم التطبيع " سوى إعادة ما اقوله دائما " أن التطبيع يتم بين دول
بعضها البعض أو منظمات أو هيئات ..لكن ليس بين الأفراد والا اعتبرنا أن تجار الموسكي وخان
الخليليي وشركات السياحة والسائقين والمرشدين السياحيين وحتى رجال الشرطة "الغلابة " الذين
يحمون الاسرائيليين السياح في القاهرة ومصر مطبعين !
وليست الكتابة هنا كما قلت من قبل تصفية حسابات فليس عندي وقت أو جهد لهذه الترهات
البشرية .. فلست أنا الذي يرد الماء صفوا ويشرب غيري كدرا وطينا!! لكني اورد وقائع محددة
لأناس ما يزالون على قيد الحياة ..قد يكون بها – أو من المؤكد أن يكون بها - بعض ما يضيرهم
.. لكن عليهم إذا رؤوا ذلك أن يقوموا بالتصحيح .
فسأورد هنا – مثلا- ما قمت أنا به شخصيا خلال قتل نظام صدام حسين للشيوعيين العراقيين
وشاركتني في ذلك زوجتي المصرية( السابقة ) السيدة ايمان ..كشاهد على اقوالي .فقد اتفق معنا
فخري كريم وكنت اعرفه منذ كان رئيسا لصحيفة الحزب الشيوعي العراقي .. حينما هرب واستقر
في بيروت وأصبح هو المسئول الأول الشيوعي العراقي في بيروت يرتب امور العراقيين اللاجئين
ويقوم بدوره المفترض منه في ترتيب خروج العراقيين المهددين من العراق.
اتفق معنا أن نسافر إلى بغداد بحجة زيارة اهل ايمان المقيمين هناك ونحمل جوازات سفر مزورة
لنعطيها لشخص محدد هناك ( فتاة عراقية لن اذكر اسمها معنا عنوانها لكي نساهم بصفتنا "أنا
وإيمان شيوعيين مصريين في دورنا في انقاذ ما يمكن انقاذه من بشر عراقيين. بالفعل سافرنا
خائفين فنحن نعلم سطوة وبطش وقسوة اجهزة امن صدام حسين ..وذهبنا إلى العنوان المحدد وقمنا
بما هو مطلوب منا .. وعرفنا اننا ساهمنا في اخراج الانسة العراقية تربطها ( صداقة خاصة )
بفخري كريم .. لم نعرف شيئا ولم نرد أن نعرف عن بقية العراقيين الذين حملنا اليهم جوازات
السفر.
وخلال تعاملي الشخصي مع فخري كريم ثبت لي انه كان يستغل مكانته ونفوذه الحزبي
ووضعه الخاص في بيروت لتحقيق بعض مآربه الخاصة . التقيت به أكثر من مرة قبل سقوط صدام
وبعد سقوطه ولم اغير رأي فيه حتى الآن .
سوف يُدهش القارئ حينما أذكر أسماء " لأيقونات وأعلام " وطنية أو فكرية يبدو أن لا باطلا يأتيها
لا من خلف ولا من أمام لكن تعاملي معها كشف لي – أنا على الأقل – بعض اقنعتها !
كما أن هناك مجرد اناس عاديين أكن لهم احتراما وتقديرا أكثر من غيرهم مثل صبحي رياض
الذي تجاهلته كل الأدبيات الشيوعية في الحديث عن التعذيب وكان هو اشجع من الجميع حينما
صاح من نافذة عنبر أبو زعبل بقوله "يا وكيل النيابة عندنا هنا قتيل " 49
سأحكي حكايته هنا بالتفصيل
ارجع إلى كتاب رفعت السعيد المذكور آنفا " وقائع التحقيق في مقتل شهدي " 49
عند قدومنا مترحلين من سجن اسكندرية إلى معتقل الواحات ..اقمتكما قلت في الزنزانة التي كان
مسؤلها السياسي شريف حتاتة . كان بها أيضا صبحي رياض الذي لم تكن لي سابق معرفة به.
لكني شاركته في كميونة بناء على طلبه 50 .. عرفت فيما بعد أن بقية المعتقلين يتحرجون من
التعامل معه للاسترابة في انه يميل جنسيا أو يحب مسجونا محددا . وانه أيضا من وجهة نظر
بعض المعتقلين مجرد " لومبن " أي شيوعي صعلوك ..وتعبير لومبن هذا اعتقد أن لينين نحته
بوصف "حثالة البروليتاريا " لكننا اخذناه واستخدمناه ضد بعضنا البعض.
صبحي شخص مسيحي لكنه استطاع الانضمام إلى جماعة الاخوان المسلمين حينما كانت ترسل
بعض الفدائيين المصريين إلى منطقة القنال ومعسكرات الجيش البريطاني في التل الكبير. انضم في
وقت ما إلى التنظيمات الشيوعية ونال نصيبه من الاعتقال.
بعد فضيحة عبد الناصر الشخصية في البرلمان اليوغسلافي الخاصة بمقتل شهدي ..امر عبد الناصر
بوقف التعذيب كما امر بالتحقيق من خلال النيابة المدنية.
اتفق المعتقلون على وصف الساعات الأولى في اوردي أبو زعبل ليوم وصول النيابة . ساد التوتر
المعتقل من مسجونين وسجانين.. اغلقوا عليهم ابواب العنابر وحبسوهم طوال اليوم. وصلت النيابة
وكانت خطة ادارة السجن والمباحث تخويف المساجين من قول الحقيقة خصوصا اؤلئك الذين رؤوا
بأعينهم ما حدث لشهدي. بالفعل خافوا. الوحيد الذي صرخ كما قلت كان صبحي رياض ( حرامي
( الفراخ 51
خلال تعاملي المستمر بدون انقطاع مع صبحي رياض لم ار منه سوءا على الإطلاق .. لعلي كنت
اشاركه صامتا سرقاته الصغيرة من شاي وسجائر .. إذ اجده يبحث عني ليقاسمني سيجارة أو كوبة
شاي وكلاهما من متع الحياة في السجن ..متعا نادرة لندرتها !
بعد الخروج بحثت كثيرا عن صبحي ولم اعثر له على أثر ..فص ملح وداب ..ولو كنت مكانه
لفعلت ما فعل !
منذ سنوات تعرفت في القاهرة على الدكتور نصر حامد أبو زيد ..كان ذلك قبيل خروجه من
القاهرة واستقراره في هولندا. فقد عرضت على القناة الثالثة في التلفزيون الهولندي فكرة عمل فيلم
تسجيلي عنه بعد اعلان ازمته مع جامعة القاهرة 52 ..وبالفعل ذهبت مع طاقم الفيلم إلى القاهرة
وصورنا أبو زيد في بيته وفي الجامعة وفي حزب التجمع الذي كان يقيم احتفالا بتأييده .
هكذا عرفت هولندا والعالم قضية أبو زيد من الفيلم . وتواصلت علاقتنا في هولندا رغم انه أقام في
منطقة مدينة لايدن حيث كان يعمل في جامعتها بينما اعيش أنا في امستردام.
حينما قرر ابني ديدريك أن يصوم رمضان معتبرا اني مادمت عربيا فأنا أيضا مسلما ..كان
وقتها لا يتعدى العاشرة من عمره وقررنا أنا وزوجتي عدم تعميد اولادنا أي عدم ادخالهم رسميا
الكميونة تعبير شيوعي يرجع إلى كميونة باريس لكن المعتقلين استخدموه بمعنى أن بتشارك شخصان أو أكثر في "حياة مشتركة " من 50
السجائر والطعام أي يتقاسموا بالعدل والقسطاس كل ما بينهم
51 هو تعبير احتقاري كنا نطلقه على بعضنا البعض دليل على عدم الاحترام وان سجينا بعينه مسجون ليس بتهمة سياسية بل تهمة سرقة
الفراخ
52 لمن لا يذكر ..تقدم أبو زيد برسالة كرسي الأستاذية في قسم اللغة العربية عن الامام الشافعي.كان المشرف هو الدكتور عبد الصبور
شاهين الذي رفض الرسالة واعتبر صاحبها"مرتدا " وأحيل أبو زيد إلى التحقيق ثم إلى محكمة طالبت بفصله عن زوجته ..الخ لكن من
المهم أيضا التقدير الموضوعي " لأزمته " مع الجامعة ومع د. عبد الصبور شاهين بالتحديد ( المشرف على رسالة أبو زيد والذي
رفضها) .. فقد ضخّم اليسار المصري القضية وأحرج "الدولة " المصرية التي كانت تتبارى مع الإسلاميين المتطرفين في ايهما أكثر
أصولية(!) وحينما تفرقعت القضية واصبحت دولية ، قررت الدولة أن تتخلص من أبو زيد بالموافقة على ارساله بعيدا وبالتالي ينغلق باب
الردح المتبادل هنا .
لقد قرات اعمال أبو زيد تمهيدا لإعدادي الحوار معه ووجدتها متوسطة بالمقارنة باعمال محمد اركون أو جىل العظم .. لكن تفجر قضية أبو
زيد في لحظة تاريخية محددة في مصر اعطاها ابعادا أكبر منها كثيرا .ما يحدث الآن من جدل بين جميع الاطراف من علمانية واصولية
وبسارية ، يؤكد مقولتي هذه
إلى المسيحية بإعطائهم الحق حينما يكبرون في اختيار الديانة التي يريدونها .. فكرت أن اكتب نصا
عن الأديان يكون محاوري الرئيسي فيه أبو زيد ..وأركز فيه على الإسلام .. وأتبنى أنا مهاجمة
الاسلام أي "محامي الشيطان " كما يقول التعبير ويقوم أبو زيد بالدفاع عن الإسلام. وافق أبو زيد
متحمسا للفكرة . عرضتها على ناشر هولندي كان قد نشر عملا بالهولندية مترجما له فرحب أيضا
بل اقترح عليّ أن اطلب منحة تفرغ من جمعية متخصصة بالفعل طلبت ووافقوا ..
هكذا كتبت النص الأول لكتاب " الإسلام لأبني " وذهبت إلى لايدن وقدمت نسخة عمل لأبي زيد
ومكثنا نتناقش فيها ونقوم بتعديلها طبقا لرأي أبو زيد بل وسألني أن كنت سأنشرها فقلت
سأحاول مع مدبولي وكان قد نشر قبل ذلك بعض مؤلفات أبو زيد ..
هكذا أخذت موافقة أبو زيد المبدئية على نسخة العمل وسلمتها للمترجمة وسافرت إلى القاهرة في
عطلتي الشتوية .
افاجيء بالناشر يبعث لي برسالة عبر البريد الالكتروني برفضه نشر الكتاب ويخبرني بخيبة امله
فيّ . قال أيضا أن أبو زيد رفض النص الذي كتبته .
دار بين ثلاثتنا حوار خشن عبر البريد الالكتروني .. اذكر اني حولت بعض الخطابات إلى صديق
مشترك هو الدكتور أبو الغار لكي يتدخل. لكن أبو الغار لزم الحياد فهو صديق لكلبنا لي ولأبي زيد .
رجعت إلى هولندا والتقيت بالمترجمة بصحبة زوجتي ( فهي صديقة لنا أيضا ) واتفقنا على إعادة
تركيب بنية الكتاب . بالفعل قمت بذلك بل وترجمت فقرات من فصول الكتاب إلى الهولندية
بمساعدة مترجم محترف ودفعت له اتعابه من جيبي ..وأرسلت النص معدلا مع ترجماته إلى الناشر
الذي رفضه للمرة الثانية أيضا نتيجة رفض أبو زيد للنص .
عرفت لاحقا أن ابي زيد كان يرتب للعودة إلى مصر ولتوضيب معاشه في الجامعة وزانه اخفى كل
هذا عني وتحجج بأسباب مختلفة .
مدبولي خاف من نشر النص كما رفضه أيضا محمد هاشم في ميريت بحجة انه سيسب له مشاكل مع
الدولة .نشرته في المغرب !
وقطعت علاقتي بأبي زيد !
يوميات من الحياة في امستردام
اليوم السبت 29 سبتمبر 2001
خطرت لي بالأمس فكرة ، كتابة مذكرات أو يوميات بشكل يومي ودقيق عن أحداث الأيام السابقة
التي بدأت من 11 سبتمبر في الولايات المتحدة وبالطبع عن تداعياتها المختلفة .
لهذا سأبدأ باسترجاع تلك الأيام السابقة
-يوم 11 سبتمبر كان عندي موعد مع طبيبتي الدكتورة كوهين . وكما يبدو من اسمها فهي
يهودية. هي طبيبتي منذ اكثر من سنتين . في الحقيقة كان لي طبيب سابق ، لكني كنت اعتقد انه
غير مبال بي ، بأسقامي الحقيقية والمتخيلة . كانت - وما تزال - عيادته في الحي الذي اسكنه ( وهو
حي المهاجرين السابقين من أتراك ومغاربة وما يزال الحي يحتفظ حتى الآن بنكهته المهاجرة وان
اختلط فيه الهولنديون مع بعض المصريين وهو مثل كل أحياء المهاجرين ، فقيرا ) وبالتالي كانت
عيادته التي تبدو عليها مظاهر الفقر بوضوح . اقترحت عليّ جارتنا ان اذهب إلى طبيبتها بدلا من
طبيبي . حينما أعلنت ضاحكة أنها يهودية أني قد لا أود ان أتعامل معها ، قلت : سأجربها قبل ان
اتخذ قرار .
لقائنا الأول كان استكشافيا حسب تعبيرها. قبل ان اذهب ، قالت زوجتي ان أسرة الطبيبة
معروفة في أوساط اليسار السياسي الهولندي حيث كان الأب والأخ على ما أتذكر من الشخصيات
الهامة في الحزب الشيوعي الهولندي سابقا ( فقد حل الحزب تنظيماته منذ بضعة سنوات واندمج
أعضائه في تنظيم اليسار الأخضر ) ولعل زوجتي أحست بتوجسي المكتوم فأرادت ان تطمئنني
بسرد التاريخ السياسي لأسرة الطبيبة .. ولعل هذا بالفعل ساعدني ان اذهب إليها بدون توجس .
اللقاء الاستكشافي الأول كان مريحا لكلانا . حينما سألتني ماذا اعمل أجبت بأني أمارس
الصحافة الحرة والكتابة الأدبية المنتظمة ، شعرت ان اهتمامها قد تزايد. لعل كل منّا كان يعجم عود
الآخر ، لهذا لم نتطرق كثيرا لتواريخنا السياسية وتجاهلناها ( في الحقيقة لم أكن اعرف مواقفها
السياسية التي أفصحت لي عنها ببطء بعد ذلك وعلى مراحل ) ولعلها تعاملت معي - وهي محقة في
ذلك -باعتباري عربيا ولي ذات المواقف التقليدية والمؤطرة من اليهود بشكل عام ومن إسرائيل
بشكل خاص . لم أبال فقد كنت في مزاج سيئ تلك الأيام ، متوهما اني أعاني من بدايات أعراض
سرطان البروستاتة .
لقاءاتنا التالية كانت تتجه ببطء للتطرق الحذر للجوانب الشخصية والسياسية في حياة كل منا
، ومتوازية أيضا مع علاقتها المهنية بي كمريض لها .
هكذا علمت هي بأني اكتب روايات و أني متزوج هولندية ولي بنت وولد ، وهكذا عرفت
هي اني قد سافرت إلى إسرائيل . عرفت منها أنها لم تذهب من قبل إلى إسرائيل بالرغم من وجود
أقارب لها هناك.
سألتني عن رأي في إسرائيل وعن انطباعاتي ، فأجبتها بصراحة مكررا رأي السياسي
المعلن : بأنه لابد من التعايش بين الشعبين اليهودي والفلسطيني هناك وخلق علاقات احترام وقبول
من الطرفين . كانت متحفظة في رأيها لكنها بالتأكيد كانت مندهشة من رأي أنا. بعد فترة طويلة قالت
لي أنها ذاهبة للمرة الأولى لزيارة إسرائيل . كنت قد أعطيتها الترجمة الهولندية من روايتي بيضة
النعامة . كانت مندهشة من اني أحضرت لها نسخة خاصة بها وسألتني أكثر من مرة ، ما إذا كانت
هذه النسخة لها . بل أنها قالت أنها سوف تشتريها . أكدت لها أنها نسختها ، وطلبت مني ان أتوقع لها
، ففعلت .
بعد ذلك سافرت أنا إلى السودان ومكثت هناك حوالي ستة أسابيع ورجعت إلى القاهرة لمدة
اقل من شهر لأسافر لأمستردام وانشغلت فترة في كتابة مكثفة عن رحلتي ونشرتها في جريدة القدس
العربي ( ستة عشر حلقة وأعطوني ما يساوي ألف دولار أمريكي! ) وقمت بإعادة الكتابة بالإضافة
والحذف لتصبح كتابا اتفقت مع دار الجمل ومقرها ألمانيا لنشره.
كنت منشغلا أيضا بإعادة الكتابة في رواية " غواية الوصال " .. هذه الكتابات المكثفة
أنهكتني ، فطلبت موعدا من سكرتيرة العيادة والتقيت بها مرة أخرى .
هكذا عرفت منها عن زيارتها لإسرائيل وعن مشاداتها مع أقاربها هناك حيث قالت لهم - كما
أخبرتني - بأن شارون يجب ان يُقدم للمحاكمة في دين هاج ( لاهاي )
قالت لي أيضا أنها كانت تود ان تأخذ روايتي معها لإسرائيل ، لكنها فضلت عدم أخذها . لم
أسألها عن السبب ولم تفصح هي .
ثم التقيتها مرة أخرى في 11 سبتمبر.
ذهبت للعيادة لأراجع نتيجة تحليل الدم الذي قمت به والي تُرسل نتيجته للطبيبة . تحدثنا
بعض الوقت بسرعة . قالت لي أنها أنهت الرواية وأنها أعجبتها ( كل الذين قرؤوها قالوا نفس الشيء
واعتقد ان المجاملة تلعب دورا كبيرا هنا . واعتقد اني كنت سأقول نفس الشيء أيضا خاصة إذ لم
يُطلب مني الرأي بصفتي كزميل كتابة )
كانت هي قد تغيرت بعض الشيء بعد طلاقها الذي عرفته من مصادر جانبية . غيرت
تسريحة شعرها الجادة لتصبح شبابية . صبغته بلون نحاسي فاتح مع الاحتفاظ ببضعة خصلات
جانبية يغلب عليها الشيب الأبيض. حينما قلت لها ذلك عابثا ومجاملا ، تضرج وجهها بحمرة خفيفة
وتشاغلت بكتابة شيء في أوراق أمامها. لكنها بدت جذلة أيضا برأي . لعل المرضى الذين يعودونها
في عيادتها - ومعظمهم من المسنين الهولنديين - لم أر سوى بضعة أجانب بعكس الطبيب السبق -
لا يقولون آراءهم في تسريحة طبيبتهم . لا أعرف لكني أحسست أنها سعدت حقا ، بأن يهتم واحد
مثلي في الرابعة والستين وهي تعرف عمري جيدا من وثائقي عنها ، بأن يقول لها ان تسريحة
شعرها جديدة ، وجميلة .
من عندها ذهبت إلى المكتبة العامة لأرجع كتبا استعرتها ولألتقي بحسام السوري اللاجئ
بدون اوراق ثبوتية فقد مزق جواز سفره حسب قوله لي . كنت على موعد معه .
حتى وصولي إلى المكتبة حوالي الواحدة ظهرا لم أكن اعرف بما حدث في أمريكا .
وهكذا التقيت بحسام وذهبنا إلى المقهى المجاور ليقرأ لي من مخطوطته التي يحاول ان
يكتب فيها رواية تتضمن السيرة الذاتية له .
تعرفت على حسام منذ حوالي سنتين في ندوة أدبية في امستردام حيث قدم لي نفسه وقال انه
قرأ بيضة النعامة .
هو كما عرفت بعد ذلك منه في بداية الأربعين من عمره ومن سوريا وانه في انتظار
السماح له بالإقامة الدائمة في هولندا كلاجئ سياسي . قصته معقدة واعتقد ان جزءا هاما منها لا يريد
البوح به . اعتقادي انه خليط من اللاجئ السياسي والباحث عن الحرية الشخصية في الغرب . فنحن
لا نتحادث كثيرا في السياسة . نتحادث اكثر في الأدب ، فهو قارئ جيد وله نظرة نقدية صائبة ودقيقة
في معظم الأحيان. ولأنه لا يعيش في معسكر للاجئين بل عنده الحق في إقامة مؤقتة لذا يسكن على
حساب الدولة في فندق صغير ويشاركه آخرون في غرفة واحدة وبتسلم أسبوعيا مبلغ 84 فلورين 53
ليأكل منها . لكنه مثل غيره لمن هم في وضعه ، فقد اكتشف طرقا متعددة للتحايل على هذا المبلغ
الزهيد بأن يعمل بشكل غير شرعي في أعمال يدوية بسيطة ، وان يطعم مرة على الأقل يوميا مجانا
في مطاعم الصدقة التي تشرف عليها المؤسسات الدينية المسيحية وما شابهها ( أقنعته مرة ان
حينما تحولت العملة إلى يورو أصبح الفلورين حوالي نصف يورو 53
يأخذني معه لنأكل في مطعم تديره الراهبات الكاثوليكيات . وبالفعل ذهبنا سويا .كنت متهيبا بعض
الشيء وارتديت ثيابا بسيطة متظاهرا بالفقر. دخلنا في صالة كبيرة واسعة مدهونة بالأبيض النظيف
ومعلق في وسط جدارها صليبا ضخما . راهبتان واحدة سوداء من سورينام. يوجد رجلان قويان
يقومان بتوزيع الطعام على الجالسين في صفين متقابلين ،حول مائدة خشبية طويلة ونظيفة. طبق
واحد يقدمون فيه قطعة متوسطة الحجم من اللحم ومعها بعض الخضار والسلاطة . ثم يقومان
بتوزيع قطعا كبيرة من الخبز وبرتقالة . لا بأس بالطعام وطعمه وجودته ، خاصة انه غير مطلوب
من الطاعمين سوى بضعة دقائق قليلة تقوم الراهبة بقراءة بضعة آيات من الإنجيل - بالهولندية - ثم
تشرحها باسمة بهدوء لتصلي بضعة كلمات تشكر الرب على عطاياه ، لنبدأ الأكل .
حسام يدخن الماريوانا يوميا . هو يفضلها عن الحشيش الذي أفضله أنا عن الماريجوانا ،
لكني لا أدخنه يوميا . أحيانا مرة في الأسبوع أو كل أسبوعين أو اكثر ، حسب المزاج أو وحسب
الظروف . هو يعرف العالم السفلي الأمستردامي معرفة جيدة حيث يقضي جل يومه متجولا داخله .
له حوالي 7 سنوات الآن في هولندا وكان قبل ذلك في بلجيكا وقبلها في اليونان . لا أعرف حجم
الصدق في حكاياته عن حياته وغير مهتم بذلك . نلتقي بشكل شبه منتظم لندخن الحشيش الذي يدخنه
إكراما لي حينما نكون سويا. أساله عن العالم الخاص الذي يتحرك خلاله ويقول لي عن صديقة له،
هولندية ، مطلقة ومعها ولد في حوالي الثامنة وعن مشاكله معها وخاصة الجنسية ، إذ أنها حسب
قوله شبقه لا تروى ، وأنها غالبا ما تفتعل معه شجارا بعد الجنس فيخرج من بيتها في اوترخت التي
تبعد حوالي نصف ساعة عن امستردام ، ليرجع مرة أخرى لأمستردام .
يومها بعد ان قضينا بعض الوقت في المقهى القريب من المكتبة ، قفلنا راجعين إليها لأتناول
حاجياتي التي كنت قد تركتها في صندوق الأمانات , لأفاجئ ب "ساسكيا" تقدم من الناحية المقابلة.
لم أكن متأكدا من أنها هي، خاصة أني التقيتها للمرة لأولى منذ أيام قليلة ولوقت قصير. كانت هي
تحاول ان تتأكد من اني أنا ، أيضا . حينما تأكدنا من بعضنا ، أقبلت علي وقبلتني ثلاث قبلات على
وجنتي كمثل العادة هنا.
ثم كانت هي من أخبرت بما حدث في نيو يورك وواشنطن .
قفي البداية لم استوعب ما قالته . طلبت منها ان تعيده . قالت هي " لقد تغير العالم ولن يصير
أبدا إلى ما كان عليه قبل اليوم "
قلت لها ما رأيك ان نجلس في مقهى قريب وان نحتسي شيئا . وافقت هي وهكذا ذهبنا ثلاثتنا
إلي مقهى مجاور - آخر - وطلبت أنا كأسا من النبيذ وطلبت هي كأسا من الصودا وحسام فنجالا من
القهوة . دفعت أنا الحساب .
التقيت ساسكيا منذ أيام في مهرجان للفيلم الأفريقي في امستردام . كنت أواظب على
حضور العديد من أفلامه. هكذا ذات ليلة قبل العرض كنت جالسا كعادتي في أول مقعد وكان المقعد
الذي بجواري خاليا . يجاوره كرسي تجلس امرأة لم أبال ان أتتطلع إليها . قبيل بداية العرض بدقائق
قليلة وصلت امرأة في منتصف العمر كما يبدو عليها ، بدون ماكياج ووقفت مترددة بجواري
وسألتني بالهولندية ما إذا كان المقعد المجاور لي خاليا . أجبت بالإيجاب أفسحت لها ان تمرق من
أمامي لتجلس.
تبادلنا بضعة كلمات مؤدبة . بدأت هي الحديث بأن علقت قائلة بأن جمهور اليوم على غير
العادة ، كبير . غمغمت أنا بشيء مشابه . ثم بدا العرض . أحسست أنها تجلس منزوية في مقعدها
وقد تركت لي المسند المشترك بيننا. جلست أنا على راحتي وان حاذرت ان المس ذراعها بذراعي .
بعد قليل أحسست أنها بدأت تسترخي في جلستها ووضعت ذراعها على المسند بجوار ذراعي .
تلامس ذراعانا لبعض الوقت.
حينما انتهى الفيلم أحسست أنها غير متعجلة للمغادرة . علقنا قليلا على الفيلم ونحن نتحرك
بهدوء باتجاه الباب . وحينما وصلنا لصالة البوفيه سألتها ان كانت تريد ان تحتسي شيئا فوافقت
مرحبة. دلفنا وسط زحام كثيف للبوفيه . طلبت أنا كأسا من النبيذ الأحمر لي وسألتها عما تريد .
أجابت مترددة بعد ان رأت كأسي " كاس من النبيذ الأحمر أيضا " انشغلت هي بالحديث مع شخص
ما . دفعت حساب الكأسين . أعطيتها كأسها ولمحت بعيني مائدة خالية في الطرف البعيد من الصالة
. قلت لها اني سأجلس هناك ، أشرت لها ، أين . ثم دلفت باتجاه المائدة ، أشعلت سيجار صغيرا ( فقد
رجعت مرة أخرى للتدخين ولكن بإقلال حقيقي ، فكنت اشتري علبة صغيرة من السيجار الصغير
ولا أدخن اكثر من سيجارين في الليل حيث قررت ان لا أدخن في الصباح ) وهكذا أشعلت سيجاري
أخذت احتسي النبيذ ببطء . وصلت هي وجلست مقابلي وبدأنا حديثا " استكشافيا " بسيطا بعد ان
تبادلنا الأسماء.
قالت لي عن أمها المريضة بالزهايمر ( مرض فقدان الذاكرة والخرف ) وأنها تزورها في
بلدة أخرى وتقضي معها بضعة أيام كل أسبوع . قلت لها - صادقا غير مجامل - ان ما تفعله نادر
هذه الأيام. وسألتني ماذا افعل فقلت لها عما أقوم به بدون تحديد وبدون التأكيد على شيء . شربنا
كأسينا . سألتني ، غذ كنت أريد كأسا آخر . أجبت بالإٌيجاب . قامت لتحضر لنا ما نريد. دفعت هي
الحساب كالعادة هنا. أحسست أنها في مزاج طيب وأنها بدأت تسترسل على راحتها معي . كنت أنا
أحس بمزاجي يرتاح أيضا . غازلتها بلطف قائلا ان شعرها جميل. أعجبها هذا وأفصحت عنه
بقولها أنها لم تسمع منذ مدة طويلة ان أحدا يقول لها ذلك . قالت أنها تحب ان يقدرها الرجال كأنثى
وان يتعاملوا معها كذلك ، ليس باعتبارها فقط امرأة مثقفة ( تعمل هي كمتطوعة في جهات مختلفة
سياسية يسارية واجتماعية )
حينما قامت تحضر النبيذ تعمدت ان أتأمل مؤخرتها وساقيها . كانت ترتدي بنطا لا اسود
مشدودا على ساقيها . فوقه جاكت مكسيكي تنسل على نصف ردفيها . ما يظهر منهما كان مكورا
ومدملكا، فوق ساقين قويتين مشدودتين بلا ترهل أو سمنة زائدة . قررت ان اختلس النظر لصدرها .
هكذا حينما رجت وجلست تعمدت ان انظر لصدرها الذي لم تظهر تفاصيله خلف البلوزة
الواسعة.
في منتصف كأسها الثاني بدأت بشرة وجهها تتخذ لونا أرجوانيا خفيفا وتلمع عيناها البنيتان.
ضحكنا وارتحنا في جلستنا ، لكن الضجيج كان عاتيا ويضخمه الصدى للصالة الصغيرة مما
أزعجني كثيرا . اقترحت عليها ان نترك المكان . قلت لها بعد ان تطلعت في ساعتي ان عليّ ان
اغادر أيضا لألحق بالترام الأخير لمنزلي .كنا نقترب الآن حثيثا من منتصف الليل. أمام مدخل
السينما توجد محطة للترام الذي اقبل ونحن ما نزال على بابا السينما . قالت لي " ترامك ، هل تريد
ان تجري لتلحق به ؟ " قلت لها " بالطبع لا . ما زال هناك ترام آخر قبل ان تتوقف نهائيا " طلبت
مني ان أسير معها إلى محطتها المقابلة ننتظر ترامها. تبادلنا أرقام الهواتف وعلى وعد بلقاء قريب .
اتفقنا ان نلتقي عندها و تطوعت أن أقوم أنا بأعداد طعاما ، بعد ان اعترفت هي ضاحكة إنها لا تحب
إعداد الطعام . قلت لها مفاخرا وصادقا أيضا اني على العكس ، احب ان اعد ما آكله .وقفنا ملتصقين
ببعضنا ووضعت يدي حول خصرها اشدها لي . قبلتها في وجنتها ونحن ملتصقان ببعضنا . خطر
لي ان أقول لها " فلنذهب إلى بيتك " كنت واثق بأنها لن تمانع . لكني لم افعل ، فقد أحسست بوهن
ورغبة في ان أكون لوحدي وعلى فراشي .
وصل ترامها فقبلتني على فمي بسرعة وانطلقت تجاهها . بينما قفلت راجعا إلى محطتي .
هكذا جلسنا ثلاثتنا في المقهى الأمسترادمي في ما بعد ظهر 11 سبتمبر .
كانت تجلس بجواري ، وحسام يجلس مقابلها . مددت يدي وطوقت خصرها ممتدحا شعرها
. كانت هي مرتبكة بعض الشيء لكنها قبعت مكانها أحسست بطيات اللحم الصغيرة وانا أتحسس
yes I know فقالت you get a nice ass بيدي خصرها . نزلت بيدي على عجيزتها وتحسستها وقلت لها
لكني لم أكن مستثارا. كنت في مزاج طيب فقط. . ,because it is my ass
ساعتها أحسست بالصداع خفيفا ومفاجئا. سحبت يدي واعتدلت في جلستي وبدأت استرجع
ما قالت لي عن ما حدث في أمريكا . سألتها عن التفصيلات .
قمنا بعد قليل كل منا متوجه إلى ما يبغي . أنا إلى منزلي وهي - بدراجتها التي سحبتها من
رصيف المكتبة إلى وجهتها التي لم تعلنها وحسام قائلا انه يريد ان يرجع إلى وسط المدينة حيث
تواعد مع صديق له ليلعبا بلياردو ( لعبة يحبها حسام )
رجعت لمنزلي ووجدت زوجتي رجعت من عملها . سألتها عما حدث في أمريكا ،
فأخبرتني وجلسنا على الأريكة مقابل التلفزيون نبحث في محطاته عن أخبار . ننتقل بن السي ان ان
والبي بي سي وغيرها .
قضيت يوما كئيبا وقد بدأ عقلي يستوعب بطء فداحة ما حصل خاصة وقد بدأت المحطات
تذيع بالصورة والصوت التفاصيل المرعبة لاقتحام الطائرتين لبرجي مبنى التجارة .
قضيت ليلة كئيبة ومتوترة . لم استطع النوم فتناولت حبة منومة من تلك التي أقنعت طبيبتي
بأن تصفها لي في الروشتة .
-12 سبتمبر
استيقظت ذاهلا بعض الشيء خاصة بعد ان أتناول حبة منومة بالليل . ألقيت نظرة على ساعة يدي
التي أضعها كل ليلة على المائدة المجاورة لسريري كانت تقارب العاشرة . حسبت الساعات التي
نمتها بعد ان تناولت الحبة المنومة . حوالي ثمان ساعات . لا بأس . دخلت المطبخ اعد الشاي, البيت
هادئ فقد ذهبت زوجتي أنا ماريكا لعملها ويارا ابنتنا إلى ن مدرستها وديدي ابننا كذلك . احب البيت
الهادئ في الصباح . لا أتحمل ضجيج عطلة نهاية الأسبوع . وخاصة التلفزيون الذي يشاهده ديدي
ويارا منذ استيقاظهما . تعودت أيضا ان أضع سدادات في أذني للحماية من الأصوات . فنحن كما
قلت نعيش في حي فقير. تأتي إليه سيارات ذات موسيقى راب عاتية بعد منتصف الليل وتتوقف
مطلقة موسيقاها . اعتقد ( انهم ) يتاجرون في المخدرات خاصة الممنوع منها من الهارد درجز.
أحضرت معي للطاولة رواية بوليسية والراديو الصغير. عادة ما أبدأ يومي بقراءة شيء ما
وأنا احتسي الشاي الذي أتناوله مع كعك الأرز ( الخالي من أي دسم أو سكر ) وقليل من عسل
النحل .لم استطع القراءة ففتحت الراديو على البي بي سي التي كانت تهرف بمزيد من تفاصيل
الكارثة .
اغتسلت وذهبت للمرحاض . ثم قمت بإعداد القهوة وجلست أمام الكمبيوتر اقرأ صحيفتي "الحياة
والقدس " اللندنيتان. ليس بهما تفصيلات مختلفة عن الإذاعات . كان الإعلان ان " ابن لادن " هو
المسئول أو على الأقل تنظيمه الإرهابي " كما أطلقت عليه الميديا الغربية والعديد من الشرقية .
أفكر : إذا كان ما حدث بسبب عمل لتنظيم إسلامي أو عربي ، أو إسلامي وعربي معا فنتائج
الكارثة وتداعياتها سوف تكون فادحة للغاية .
-13 سبتمبر
ما تزال السي أن أن تقدم ذات الصور بالتصوير البطيء : الطائرة الأولى تقتحم البرج ، ثم الطائرة
تتكرر مثل الأصوات في الكوابيس . oh my god ! الثانية تقتحمه بزاوية مائلة .الأصوات الهلعة للناس
اعمل بشكل متواصل منذ بضعة شهور ( فقدت الآن حسابها ) في تحضير للكتاب الذي
سأقوم بكتابته والحقيقة ان "كتابته " ليست دقيقة تماما . فسأقوم بإجراء حوارات طويلة مع الدكتور
نصر حامد أبو زيد، والمقيم في لايدن منذ حوالي ست سنوات بعد " خروجه " من مصر نتيجة
للقضايا المتلاحقة التي أُقيمت ضده وضد زوجته لاتهامه بالكفر والردة وبالتالي تطليقه من زوجته
الدكتورة ابتهال . كل هذا بسبب كتاباته "التنويرية " عن الإسلام ورفضه الإسلام السياسي . في
البداية خطرت لي الفكرة منذ حوالي السنة : ان أقيم معه حوارا طويلا ، اعبر أنا فيه عن وجهة نظر
الأقباط المصريين وهلعهم من الجماعات الإسلامية مما أثر على موقفهم من الإسلام عموما
واعتبروه دينا يحض على العنف . وافق هو ، لكن الظروف لم تسنح . لكل منا لانشغالاتنا المتعددة .
خاصة اني كنت أعيد للمرة الخامسة أو السادسة كتابة روايتي الأخيرة "غواية الوصال " وبالتالي
يتواصل انزعاجي وتشككي في العمل ككل .هذه حالة تصاحبني دائما عند إعادة الكتابة .المهم انه بعد
شهور من الصمت حول الحوار تحادث معي يوست الناشر لدار " بولاق " الهولندية الصغيرة
والمهتمة بترجمة الأدب العربي ( من أيام الإنسان السبع لعبد الحكيم قاسم حتى المجلدات الكاملة
لألف ليلة وليلة )واتفقنا على "كتاب الحوار " هذا ان جازت التسمية وينشر مباشرة بالهولندية حيث
تقوم جوكا بوبينغا التي ترجمت روايتي بيضة النعامة بالعمل مباشرة خلال تفريغ الحوارات
المسجلة وكتابتي لها. وتحادثت مع أبو زيد برغبة يوست ووافق هو مشترطا ان تحضر جوكا
اللقاءات بيننا لأن هذا - حسب رأيه - يساعدها على فهم الحوارات وبسهل عليها الترجمة . وافقت
جوكا وكتب لي يوست طلبا لمنظمة تدعى " منظمة الصحفيين والأدباء " لطلب دعم مالي لي
شخصيا لأنه حسب اعترافه لن يستطع تقديم دعما لي خلال تفرغي للبحث واللقاءات والكتابة. ومع
ان الدعم المالي سيكون لي بصفتي الباحث والمحاور وكاتب للحوار إلا اني أصررت ان تشترك
جوكا وأبو زيد معي في الحصول على جزء من الدعم المقدم لي . اتفقنا على ان يحصل كل منهما
على نسبة معينة .. لكن الطلب الأول للدعم لم يحز القبول واقترحت اللجنة المشرفة على الطلبات
في خطاب لي يلمحون فيه إلى تغيير موقفهم ، شريطة ان أركز أساسا على " التاريخ الشخصي "
لأبي زيد " لم أتحمس أنا لهذا العرض لعلمي انه قد نشر تاريخه الشخصي بالألمانية. لكني أنا
وجوكا استطعنا ان نضع صيغة معدلة بأن كتبنا في خطاب للمنظمة بأني على استعداد لوضع أجزاء
من سيرة حياته في الفصول التي تستدعي ذلك . ضربت لهم مثالا بفصل " الردة " الذي انوي ان
أسال ابو زيد عنه وكيف انه شخصيا قد "يُقتل رسميا" بحكم محكمة النقض المصرية وهي أعلى
سلطة قضائية في مصر باعتباره كافرا ومرتدا .
وذهبت مع يوست لإجراء حوار مع اللجنة أو من يمثلها . بالفعل استقبلتنا السكرتيرة العامة
وقمنا بحوار ونقاش لمدة ساعتين أقنعتها بما أريد. ثم أعادت جوكا صياغة الطلب الثاني الذي أدي
بالفعل في الحصول على المبلغ الذي طلبناه وهو 17 ألف فلورين .
سأحصل منها على حوالي 9 ألف وسوف تفيدني جدا خاصة في رحلة لزيارة اختى المقيمة
من سنوات في استراليا. قررت السفر عبر الصين حيث سأسافر في بدايات شهر ديسمبر لأكون
في استراليا قبيل الكريسماس الذي وعدت أختي وداد الشهيرة برونسي ان اقضيه معها وكذلك رأس
السنة ( لكن هذه حكاية أخرى )
إذن نحن في أبان أزمة الإسلام السياسي وعلى المستوى العالمي حيث يُنعت بالإرهاب
الدولي. واعتقد انه ستمر سنوات طويلة فبل ان تعود الأمور إلى حالتها الطبيعية ولا أقول السابقة ،
فلن يعود شيء لوضعه السابق . لقد تغير العالم تماما منذ الحادي عشر من سبتمبر إلى غير رجعة .
كما قالت ساسكيا ( وهي نشطة في مجالات حقوق الإنسان أيضا والأقليات )
لكني أيضا مضطرب ولا أستطيع التركيز ، لعله الطعن في العمر ، بل هذا بالتأكيد هو
السبب ، بالإضافة بالطبع للوكسة التي يمر العالم بها .
أنا شخصيا سعيد بأن الأمور تتطور باتجاه القضاء على طالبان ، التي اعتقد انه خزي في
جبين البشرية ، بالرغم من أنها اختراع أمريكي منذ أيام الحرب الباردة الصراع مع السوفيت الحمقى
الذين دخلوا أفغانستان بحجة حماية النظام الشيوعي أو الأبصر ايه هناك والنهاية معروفة . الآن
يوجد شخص اسمه الملا عمر كان شيخ جامع صغير بالقرب من الحدود الباكستانية ، وأصبح " أمير
أمارة أفغانستان الإسلامية"
هذا يذكرني بالبنت "رقية " الأفغانية التي تعيش هنا في امستردام : لاجئة سياسية حصلت على حق
اللجوء والإقامة بل وجواز سفر هولندي .لن اسرد قصة حياتها هنا لكن فقط ما اعرفه عنها من
الناحية " الأ دبية " فقد قدمتها لي السيدة " كريستال يانسون" مسئولة الملف المتعلق بالأدباء
والكتاب الأجانب في منظمة ادبية كبيرة هنا في هولندا والتي قامت قبل ذلك حينما تُرجمت بيضة
النعامة إلى الهولندية بعمل " ملف " لي يتعلق بأعمالي الأدبية . نبتت علاقة لطيفة بيني وبين
كريستال وكانت تستشيرني ( بأجر معقول ) في قراءة بعض ما يقدم لها من كتابات باللغة العربية .
وهكذا قدمت لي " رقية" التي تكتب بالعربية بشكل ممتاز. في البداية كتبت رأيا سلبيا في ما قرأته
حيث كان بالغ الرومانسية البسيطة . ثم اقترحت عليّ كريستال ان أقابل رقية وان " أدربها "
بعض الشيء وبعض الوقت مع كاتب عراقي آخر , وافقت على ان لا تطول فترة اللقاء couching
عن مرتين أو ثلاث لكل منهما . كنت أيضا محتاج للفلوس .
هكذا التقيت رقية التي ليست جميلة على الإطلاق لكنها تمتلك رقة وطيبة .جسدها هزيل
وبشرتها شاحبة وأسنانها غير منتظمة . محنية الظهر قليلا رغم أنها لم تتعدى العشرينات من
عمرها. خافتة الصوت هامسته ، وهذا أزعجني منها كثيرا خاصة اني كنت دائما أقول لها ان ترفع
صوتها ، مما خلق ذبذبة سيئة - في البداية بيننا أو على الأقل من ناحيتي .
لكن سرعان ما تصادقنا صداقة بريئة ووثقت هي بي واطمأنت إليّ . قلت لها ما اعتقد انه عيب في
كتابتها . بالطبع لم يعجبها رأيّ . لكني تمكنت من إقناعها ان تكتب تجربة هروبها - مع أسرتها - من
أفغانستان ثم تجربة تواجدها في معسكر اللجوء هنا في هولندا وماذا جرى لها حتى استقر بها الحال
في شقة صغيرة للغاية ( غرفة نوم وصالة معيشة ) في امستردام .
ولكي أحمسها للكتابة في هذا الموضوع الذي اكتشفتُ إنها تكرهه لأنه حسب قولها يذكرها
بمآسي كثيرة ، وعدتها ان أساعدها في نشره . بالفعل كتبت البنت مادة جيدة للغاية بأسلوب مختلف
تماما عن أسلوبها السابق ,أسلوب جاف ومتباعد وهو مناسب للغاية لثيمة كهذه . لكنها كانت تكتب
بخط اليد على صفحات كراس عادي أحضرته معها من السعودية حيث كانت محطتها الأولى وعلى
صفحاته الأولى صورة الملك فهد خادم الحرمين وبجواره وبحجم اصغر قليل صورة الأمير عبد لله،
ولي عهد خادم الحرمين. طلبت منها ان تعيد ما كتبته على الكمبيوتر لكنها تعللت بأنها لا تمتلك
واحدا . تحدثت مع آنا ماريكا واتفقنا ان نعطيها الكمبيوتر القديم تبعي مع الكي بورد العربي .
المهم كتبت هي على الكمبيوتر لكن بدون ان تعمل باك أب أو سيفينج ولهذا لم تعطيني
فلوبيي . تحيرت في أمرها وكنت قررت ان لا أبذل أي جهد معها إذ لم تتعاون معي. وليس عندي
وقت إضافي لها أو لأكتب لها على الكمبيوتر تبعي . ثم أننا كنا على بداية الاجازات الصيفية وما
يتبعها من استعدادات اكرهها وهي الذهاب إلى المخيم الصيفي بجوار البحر . لا يزعجني بقدر ما
تزعجني الأمطار التي لا تتوقف عن الانهمار في الوقت الذي تختاره أنا ماريكا للمخيم !
هكذا كان مزاجي وحالتي . أخذت المادة منها وركنتها في الدرج على أمل ان اتصل بالحياة
أو القدس بعد تجربة المخيم وان انهي العلاقة الواهية بيني وبين رقية .
لكني نسيت ، حتى ذكرتني هي بتليفون ضربته لي ، فكذبت عليها وقلت لها اني أرسلتها أني
انتظر ردا .
ثم حدثت كارثة نيو يورك ، لأتذكر رقية مرة أخرى !
من المدهش كيف تتداعى الخواطر . تتفكك وتترابط .
20 سبتمبر
بالأمس التقيت جوديت. كنّا قد حددنا موعدا قبلها بأيام . اعرفها منذ سنوات طويلة . هذا إذا تجاوزت
عن اصطلاح " المعرفة " بمعناه الحقيقي .
رأيتها منذ حوالي 14 سنة في القاهرة ذات كريسماس أو رأس سنة لم يعد أحد منّا ان يتذكر بدقة الآن
. كنت في بيت مارليس وزوجها روود بيترز في الزمالك . وكانت هناك بنت ذات ساقين خرافيتين
ومعها صاحبها. هولنديان .تعرفت عليهما بشكل معقول بعد سنوات حينما بدأت استقر في امستردام.
بل قضينا مرة رأس سنة مع بعضنا ومعنا عدد مهول من الناس في شقتها ( كما عرفت بعد لك
بسنوات ) كنت طوال الوقت أتحسر على البنت وعلى ساقيها . ذات مرة جاءت إلى مصر في الشتاء
منذ بضعة سنوات وكنت أنا وآنا ماريكا والأولاد في سيناء في مخيم اسمه البساطة . كانت هي مع
شلتها . سمعت انها انفصلت عن صاحبها ( الذي أصيب بالسرطان بعد ذلك ومات .. اسمه رولف)
كانت مستلقية على بطنها تتشمس بلباس البحر . اكتشفت ان مؤخرتها أيضا من النوع الذي أهواه .
متوسطة الحجم وكاملة الاستدارة .عرفت أنها على علاقة بمارك البولندي الذي يعيش في امستردام
منذ سنوات طويلة ومرتبط بعلاقة مع كاتبة بلجيكية، منذ سنوات طويلة أيضا . مارك يتحرك في
نفس شلتي الهولندية وجوديت أيضا .
هكذا منذ بضعة أيام التقيتها عند مارليس . كنت منتشيا بعد بضعة كؤوس من الويسكي
الأيرلندي التمام . خرجنا سويا . كنّا بالليل . يبدو أنها كانت في مزاج خصوصي . سرنا مع بعض
قليلا . غازلتها بشدة وقلت لها أنها تمتلك ساقين جميلتين .أضفت رأي في مؤخرتها . هي تستمع
وتضحك منتشية . قالت بجدية " لم يقل لي أحد من قبل ما تقوله لي . ساقاي سمينتان ."
تطور الغزل لان أقول لها أود ان اخذ معك موعدا . وافقت هي قائلة " لابد ان نعرف بعض
احسن "
نسيت ان أقول أنها رجعت - بشكل ما- إلى رولف( قبيل موته) تأخذ بالها منه خاصة انه
في أيامه الأخيرة. هو اكبر منها في العمر على الأقل 15 سنة ، حسب تقديري.( لعلها أيضا كانت
ترمي عينها على أن يضمها إلى وصيته. عرفت من مارليس انه كان يضربها بقسوة. لم تقل لي
السبب)
جلسنا في المقهى وكنت قادم من موعد عشاء مع "سيمونا" مديرة لمهرجان عربي صغير
ومكتبة عربية أيضا اسمها ن" الهجرة" وكان معنا اثنين آخرين ..
تعشينا واستأذنت أنا قبيل الثامنة لأذهب إلى موعدي مع جوديت في مقهى كبير احبه هو يارين ( أي
الأذنين ) يطل على نهر آمستيل . التقيت بها على باب المقهى وقد قدمت بدراجتها . هكذا دخلنا سويا
. طلبت أنا كونياك وقهوة وطلبت هي نبيذ روزيه .
أحسست ان جو اللقاء في المقهى اقل حميمية من المرة السابقة . السبب واضح وطبيعي ؛
فظروف المرة السابقة والتي كانت بالصدفة خلقت تلك المعابثة والغزل والجرأة من كلينا ، بعكس
هذه المرة المرتبة مقدما ومسبقا .
لهذا تبادلنا في النصف ساعة الأولى حديثا عاديا . كانت تجلس بجواري لكنها متباعدة قليلا.
شيئا فشيئا بدأنا نتقارب في الحديث ، ونضحك . أحسست بها تلين بعد تصلب وخلعت هي جاكتة
كانت ترتديها لتظهر بلوزة صغيرة عارية الظهر. قلت لها كيف اني رأيتها للمرة الأولى وكيف
سحرتني قدماها . قلت لها اني طوال تلك السنوات ( هذا ليس حقيقي ) كنت أحاول ان اقترب منها
ولا اعرف كيف . قالت لي أنها أحست بذلك وأنها أيضا لم تعرف كيف تتصرف . رضينا بهذه
التصريحات عن اهتمامنا ببعضنا . كررت هي للمرة الثانية انه لا أحد قال لها أنها جميلة أو ساقيها
حلوتان . اندهشت أنا . فالبنت ليست رائعة الجمال ، لكنها بالفعل جذابة وخفيفة الدم وتمتلك عيان
ساحرتان تختلط زرقتهما برمادية خفيفة . لم أكن واثقا كيف ستنتهي السهرة وهل سنذهب سويا إلى
شقتها ( اعلم ان رولف يعيش بمفرده الآن ) وهل سأقبلها في الشارع فقط ؟ أسئلة لم اشغل نفسي
بإجابتها ، بعكس زمان كنت انشغل واخطط مقدما . بالفعل حينما خرجنا من المقهى قلت لها اني أريد
ان أوصلها للشقة لكنها قالت بجدية انه لا داع . أصررت أنا فوافقت هي . كان عرضي غائما
وقبولها غير حماسي . وضعت يدي حول خاصرتها متعمدا ان تكون فوق الردفين وسرنا هكذا
متلاصقين بعض الشيء ، مثلما حدث في المرة السابقة .في الطريق اكتشفت ان الشمسية التي معي
غير شمسيتي . لابد ان الشاب الذي كان يجلس على ذات الأريكة غيرها . لم اهتم أنا ، مع اني
اشتريتها منذ يومين فقط . لكنها أصرت ان نرجع ( كنا قطعنا بضعة مئات من الأمتار ) ونبحث في
المقهى . لا اعلم لماذا طاوعتها . لعلي كنت أريد حجة بتأجيل حكاية الشقة .اعلم انه في حالة رجوعنا
سوف استقل الترام القريب من المقهى وترجع هي إلى بيتها بمفردها .حاولت هي ان تفتح الشمسية
ولكن السوستة كانت مكسورة ولذا جرحت إصبعها وسالت منه نقطة دم . أخذت إصبعها ومصصته .
فقالت متصنعة الجدية " مثل درا كولا" فأجبت اني أود ان امتص دمها . ضحكنا .بالطبع لم أجد
الشمسية واقترحت هي أنا استقل الترام ووافقت أنا بدون مقاومة . قالت لي ان اتصل بها في أي
وقت. أعطتني خدها لأقبلها . قبلتها واستقليت الترام .
حادثتها اليوم مساء في منزلها ،لأخبرها كيف اني انبسطت ليلة الأمس. ردت هي بترحاب . أشرت
بغموض ان نكرر لقاءانا ورحبت هي أيضا بغموض . لكنها قالت أنها مشغولة طوال هذا الأسبوع .
تركنا الموقف على حاله هكذا .
21 سبتمبر
موعد ثان مع الطبيبة . فقد اقترحت عليّ ان آخذ موعدا " طويلا" أي في نهاية اليوم . فالمواعيد
العادية قصيرة ( 15 دقيقة ) والطويلة نصف ساعة . قالت انه تريد ان تفحصني جيدا . وهكذا ذهبت
وتحادثنا في " غرابة " ما حدث في موعد المرة السابقة ( 11 سبتمبر ) وهكذا فحصتني باهتمام
أنصتت إلى أوجاعي الحقيقة والمتخيلة .
تبدأ الأخبار في الانهمار : بن لادن ، القاعدة وقبول بعض الدول وحماسها للدخول في حلف
بوش وحذر البعض ورفض البعض مثل إيران .
لكن ما أثار اهتمامي هو الرسالة اليومية التي يكتبها مراسل جريدة القدس العربي اللندنية من
القاهرة :حسنين كروم والتي يلخص فيها ما يكتب في الصحافة المصرية وموقفها من القضايا
المطروحة . الذي أثار اهتمامي واشمئزازي هو كتابات الشماتة الواضحة والتي يعلن كاتبوها انهم
شامتون في أمريكا وما حدث .هذا يدل على انحطاط لا إنساني بدرجة غير معهودة . انحطاط مغلّف
بوطنية أو قومية أو إسلامية زائفة . ويبدو ان الآخرين الذين يحسون ببعض التعاطف يخافون من
إبداء رأيهم حتى لا يتهموا بأنهم بتوع الأمريكان.
وليس هذا في الصحافة المصرية فقط بل في العربية ايضا بشكل عام . ومن المهم متابعة
كتابة داوود الشريان في " الحياة " وهو يحاول ان يعلي صوت العقل والحكمة والإنسانية في غابة
من الصراخ والانفعالات الحمقاء .
-22 سبتمبر
احضّر ورقتي لمهرجان الهجرة . انها عن " الكتابة والتابو " وقد وقعت في ايدي منذ فترة قصيرة "
دراسة " اعدها سوداني اسمه محمد الطيب يتجهز للحصول على الدكتوراه في "حقوق الإنسان المسلم
والاضطهاد الديني " وقد اخذت منها معلومات هامة للغاية متعلقة بالدساتير " الإسلامية " في ايران
والسودان وأفغانستان والسعودية ، وعن الاضطهاد الذي يلحق بالمسلم إذ ما حاول تغيير دينه
.خاصة اني كنت بدأت كتابة الفصول التمهيدية الولى من روايتي الأخيرة التي اريدها عن دخول
الاسلام لمصر وفرض اللغة العربية في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز ثم عبد الملك واخترت لها
عنوانا مؤقتا " قطع اللسان " واستخدمت مجموعة من المراجع اهمها كتاب " بتلر " الذي ترجمه محمد
فريد ابو حديد بعنوان " فتح العرب لمصر "
انباء متلاحقة ومتفرقة عن " اضطهادات " متنوعة جسدية أو احراق او محاولة إحراق
مساجد ومدارس اسلامية ..الخ لكن الخبر الذي لفت نظري هو مقتل فبطي يعيش ويعمل في امريكا
بالرغم من انه يعلق في متجره صورة كبيرة للعذراء مريم ! كذلك مقتل هندي من طائفة السيخ ،
ايضا في امريكا !
امني النفس بلقاء تعقبه اشياء مع جوديث لكني لم اتصل بها حتى الآن ، فلا احب ان ابدو متلهفا ولا
أريدها ان تشعر بأني افرض نفسي عليها . اتخيل عجيزتها المستديرة المتوسطة الحجم ومني النفس
ان اعبّ منها.
سبتمبر
المناقشة التي دارت حول " الكتابة والتابو " كانت متوسطة ومعقولة، اشترك فيها معي اسعد جابر
الاردني الفلسطيني والذي يعمل مدرسا للأدب واللغة العربية في جامعة لايدن . ومهنا ايضا الكاتب
المغربي فؤاد العروي وهو قدم لهولندا منذ سنوات ويكتب رواياته بالفرنسية وتترجم للهولندية ( لم
اقرأ له شيئا بينما يدعي انه قرأ بيضة النعامة ومبسوط منها ! ) وأدار الندوة ميخائيل زيمان وهو
عملاق هولندي في الاربعين ومعلق تلفزيوني وناقد أدبي .
لم تحضر سيمونا التي وعدتني ان نلتق لنأخذ موعدا على جنب ( هي متزوجة .. مثلي !)
وعرفت بعد ذلك انها مريضة بالتهاب اعصاب الركبة او شيء من هذا القبيل .
27 سبتمبر
دُعيت "لقراءة " في روايتي في مقهى ادبي قريب من البيت . قلت لمن وجه الدعوة انا لا استطيع
القراءة بالهولندية . قال اقرأ بأية لغة . طلبت من جوكا ان ترافقني وتقرأ هي . وافقت فأبلغت اهل
الدعوة . حددنا الموعد 20 اكتوبر .
المكان مقهى ومطعم ايطالي اسمه الفصول الخمسة ! حينما عرف الداعي ان البيضة مترجمة
للإيطالية طلب مني ان احضر نسختين . بالفعل وجدت آخر نسختين عندي . كتبت إيه ميل
لفرانشيسكا ( اياها ) اطلب منها ان تتصل بالناشر الايطالي وترسل لي خمسة نسخ . ارسلت ترد
موافقة . علاقتنا غريبة ومتوترة احيانا لكنها متواصلة بشكل ما .
آه يافرانشيسكا !
-1 اكتوبر
اكتشفت ان سيمونا قالت لزوجها المغربي الذي اتصل بي بحجة ان سيمونا مريضة وافهمني
انه كان سيحضر اللقاء لولا انه مشغول . اعتذرت له بلطف اداري ارتباكي وقلت له اني ايضا
مريض ..الخ . اغلقت الخط ومكثت افكر وانا اغلي غضبا . بنت الكلب .
-3 اكتوبر
الأيام تجري كما هي . اتصلت بساسكيا بدافع الملل وحددنا موعدا بعد بضعة ايام في بيتها .
10 اكتوبر
الحرب !
اتابع الأخبار بانفعال . الطائرات الامريكية تقصف مواقع طالبان ..الخ
-13 التقيت ساسكيا . هي من النوع الذي يخترع مهاما سياسية خاصة مع تطور الحرب .
وجدتها تجري من مكان لآخر على البسكيلتة وتضع خطابات كثيرة في البريد. كنا اتفقنا ان
نأكل في مطعم سورينامي قريب . لكنها اخذتني الى مطعم فرنسي وغال . لم اهتم كثيرا
بالأسعار فكل منا سيدفع حسابه .. لكن الكل لم يعجبني فرجعنا مرة اخرى للمطعم السورينامي
الذي كان مزدحما بالطاعمين مع ان اسعاره ارخص قليلا من الفرنسي .
ذهبنا الى شقتها الريبة . صغيرة وفي الطابق الأرضي ، وغرفة نومها تبدو لنا من
كان جلوسنا موجودة في الطابق تحت الأرضي . كنت قد فقدت حماسي لها وحماسي لفعل أي
شيء وأخذت افكر في حيلة للخروج بدون ان اثير امتعاضها ، فقد تمددت هي على الأريكة
تظاهرت بالعفة وغطت ساقيها العاريتين من الجيب القصيرة . لم تعجبني ساقيها ولا شكل
جسدها . مكثنا بعض الوقت وتعللت بالصداع والتعب وخرجت .
27 اكتوبر
سافرت الى لندن لألتقي نبيل ورتبت بقائي عند صموئيل لمدة اسبوع . الحقيقة كنت اريد ان
اهرب من جو البيت الكئيب . كنت اريد ان ارى نبيل اديب عبد لله الذي اعرفه من ايام
السودان زمان وكذا صموئيل .
تخوفت من السف بالطائرة تحاشيا لدوشة المطارات والتفتيش الصارم الذي قرأت عنه
وشاهدته في التلفزيون وخاصة بالنسبة لواحد مثلي شكله غير أوربي ويحمل جواز سفر هولندي
. حاولت انم احجز بالقطار لكني اكتشفت انه اغلى بعض الشيء من الطائرة ، فتوكلت
وحجزت بالطائرة . الغريب او المدهش لم يحدث ما يعكر صفوي او صفو الرحلة . بالطبع فإن
بن لادن هو الموضوع الأساسي في اية جلسة .
قال نبيل مندهشا ان العديد من المثقفين المصريين المعتبرين يساريين يؤيدون بن لادن
بحجة معارضتهم لأمريكا . ذكر لي اسماء . دُهشت جدا لكن اسقط في يدي كما يقول اهل
الفصاحة.
بعض شخوص أعمالي
أولا :بيضة النعامة
لا أختلف عن معظم الكتاّب في استجلاب شخوصي الروائية والقصصية من الحياة ..حياتي
الخاصة أو من التقي في الحياة بشكل عام.
بعض شخوص بيضة النعامة مثل خيرتي وجوديث وعم ربيع المراكبي الاسوانلي كما معظم
شخوصها الأخرى هي من خزين ذاكرتي.
مدين أنا في بيضة النعامة لخيرتي وجوديث فلولاهما لما ذهبت إلى البر الغربي لمدينة الأقصر
ولما استقريت في فندق " هابو " ولما اكتشفت معبد " مدينة هابو " ولما ذهبت إلى نقادة أصلا ..الخ
بل ولعلي لما كتبت بيضة النعامة ؟!
لا أعرف ولست متأكدا من أن ( الروايات والأعمال الفنية الإبداعية بشكل عام ) هي اجنة تنتظر
الولادة عند المبدعين .
أقول لست واثقا من هذا وان كنت أؤمن بما يُسمى الدفة " المدبرة " وكلاهما على العكس من
بعضهما(!)
فتعرفي بخيرتي وجوديث حينما قدما إلى مصر في رحلة لهما تشبك العلم والبحث بالسياحة
..جاءت عن طريق سلسة من الصدف ؛ فقد عرفتني بهما الملحقة الثقافية لسفارة هولندا آنذاك
والتي عرفني بها صديق صحافي هولندي هو "هارم بوتشيه " الذي تعرفت عليه عندما كنت
أعمل في جاليري سفر خان بالزمالك العائد إلى روكسان ارملة شهدي التي عرفني عليها صنع لله
الذي تعرفت عليه في الواحات من خلال القلش الذي كان يقيم في زنزانتي بالواحات ..الخ ..الخ ..
هذه سلسلة متواصلة الحلقات ومحكمة !
كنت - كما قلت في العديد من اللقاءات الصحافية - اني قدمت إلى مصر بعد غيبة 12 سنة
متواصلة .. ولم أكن انوي الإياب إلا بعد أن أصبح سقوط بيروت الغربية في ايدي الجيش
الإسرائيلي أمرا حتميا ؛ فقررت الخروج من لبنان متبعا حدسي الداخلي بأن لا اتوه مع
الفلسطينيين في منافيهم لسببين : أن لي وطنا حتى ولو لم أكن " احبه " ثانيا أني اؤيد
الفلسطينيين لكن لا أعمل "عندهم أو معهم " أي أن تكون لقمة عيشي حرة القرار . وطوال اقامتي
بالخارج لم اقبض "فلسا " واحدا من الفلسطينيين لا من مجلاتهم أو أي من "مكاتبهم وأنشطتهم "
بالرغم من تأييدي لهم قلبا وقالبا وبكثير من الانتقاد المتواصل ابدا .
هكذا قفلت عائدا إلى مصر محبطا ومهزوما بشكل شخصي ؛ مضطرا العودة إلى "مكان " ليس
لي فيه اهل كثيرين أو اصدقاء أيضا .. لكن لا مفر من العودة إليه.
ثم كرت السلسة التي اشرت إليها لأجد نفسي مع الفتاتين في سيارتهما اللاند روفر نتجه إلى
الصعيد إلى الأقصر بالتحديد حيث ترسم خيرتي لوحاتها مستوحية الفن الفرعوني وتقوم جوديث
بدراستها عن " آثار البحر المتوسط "
في غرفتي الصغيرة بفندق "مدينة هابو " كتبت السطور الأولى لبيضة النعامة وواصلت كتابتها
حتى قبل أسابيع من نشرها أي حتى عام 1994 – رياض الريس .
المشهد الطقسي في المعبد " استوحيته " من معبد هابو ومن معماره مع بعض التطويرات
والتحويرات ..وطبعا تكون البنتان في الطقس هما جوديث وخيرتي .
الرحلة إلى جبل مرة قمت بها مع آخرين غير "مسيحة " الذي ذكرته في الرحلة . ومسيحة ليس
سوى صديق طفولتي صبحي الذي هاجر من السودان إلى استراليا والتقيته هناك بعد سنوات من
قطع الاتصال وضحكنا كثيرا على تصويري له في النص خاصة أن النصوص الأولى كان بها
خطأ لوجستيكيا هو اني ذكرته مرات باسم مسيحة ومرات باسم صبحي !
كنت بعد سنوات من التوقف المتعمد عن الكتابة - سوى بعض القصص القصيرة أو مسرحيتين
في بغداد - أي معظم ألاثنتي عشر سنة خارج مصر .. لا أعرف كيف اكتب بنفس طويل .. لذا
كانت السنوات الأولى في كتابة البيضة صعبة للغاية إذ كثيرا ما توقفت يائسا وحائرا ومحبطا
بان ما أكتبه ليس سوى تفاهة من التفاهات المضافة إلى التفاهات الموجودة .
في السنوات التي تلت ذلك بدأت استقر بعض الشيء في هولندا ولم يكن عندي كمبيوتر ولا
اعرف بوجود شيء اسمه بريد الكتروني ..الخ لذا كنت أحمل معي كراريسي ذهابا وإيابا القاهرة
امستردام وأعطيها لصنع لله وكمال القلش للقراءة والنصح . حتى اشترت زوجتي لي كمبيوتر
وركبت عليه برنامجا اسمه " النافذة " وهو الاستنساخ العربي من ويندوز ..
ثم بدأت أطبع ما اكتب ..على طابعة يملكها صديق هولندي !
في البروفة قبل الأخيرة أعطيت ما كتبت لفاطمة الطناني ( التي رسمت لي بعد ذلك
بضعة أغلفة ) فنصحتني بأن اتزيد كثيرا في الكتابة عن السجن ..وقد فعلت.
ولم أكن اعرف رياض الريس ..ولم أكن واثقا أن ناشرا مصريا - آنذاك - يجرؤ على
نشرها لما فيها من حديث عن المسيحيين والسجون والجنس فنصحني صنع بإرسالها إلى رياض
الريس ..وقد فعلت ..وقد نشرها ( دفع لي خمسماية دولار عن خمسة آلاف نسخة ..اول عن آخر
!) أما مدبولي حينما اعاد طبعها فقد دفع لي ألف جنيه على أقساط طويلة الأمد .. بعد ذلك
وقبل ذلك كنت ادفع من جيبي وانشر على حسابي .. بل اني نشرت " غواية الوصال " من دار
نشر وهمية الفتها ووضعت عنواني لها في امستردام .. ثم نشرتها مرة ثانية أيضا على حسابي من
دار نشر صغيرة قاهرية .
والحقيقة التي أعيد ذكرها هي أن زوجتي أنا ماريكا تفلت بحياتي ومصاريفي فب هولندا
..جعلتني شبه متفرغ للكتابة ولست في "حوجة " للخبط على البيبان.
مرة قليت عقلي وطلبت منحة من الدكتور جابر عصفور حينما كان رئيسا للمجلس الأعلى للثقافة
فقال أن الصعوبة في الحصول عليها هو اني لا أقيم في مصر ..لكن الرجل حاول مع فاروق حسني
وزير الثقافة ولم أحصل على المنحة .
مرة وحيدة أخرى قليت عقلي ثانية واشتركت في مسابقة للرواية في عمان .. ..أظن ذلك كان عام
2006 أو 7 ..ولم افز( بالطبع ) رغم اني اشتركت بغواية الوصال وقدمت ببيضة النعامة
ومزاج التماسيح كوثائق طلبوها اثبات اني كاتب !
بعد ذلك عرفت وآمنت أن المؤسسة التي أنا – من زمن طويل خارجها - لن تعطيني جائزة ما ..
لن تعترف بي ( رغم اني لم اعترف بها ..لكن قلة عقل مني وبلاهة أيضا )
وهكذا لم أقدم نفسي إلى العويس ولم يقدمني ناشر مصري أو عربي إلى جائزة ..مما أعطاني "
صلاحية ومصداقية " في الحديث عن الجوائز وانتقادها مثلما افعل الآن مع الجائزة المشوهة
والمسماة بوكر العربية ( لكن هذا حديث آخر !)
وبالفعل .. فقد سافرت إلى جبل مرّه ( كتبت عنه في بيضة النعامة ) منذ حوالي 23 سنة .. اذكر
ذلك جيدا لأن سفري كان له علاقة بميلاد ابنتنا يارا عام 1977 ونتيجة للعلاقة الخاصة
والحساسة مع زوجتي وقتها وأم الطفلة فلم استطع السفر إلى هولندا لحضور لحظة الميلاد ،
وعرض عليّ بعض الأصدقاء الهولنديين السفر معهم إلى الفاشر ومنطقة دارفور وجبل مرة فرحبت
كثيرا . بعض ما حدث هناك حقيقي والبعض من مخيلتي أو سمعت به . طان السفر كما ذكرت في
النص بالباصات وممتعا .. الرحلة كلها كانت ذات طبيعة خاصة .. لذا حينما دارت الخرب في
دارفور مؤخرا ، تابعتها بحزن لأني اعلم هذه الأماكن وقد أكلت وشربت وتحادثت مع الأهالي
هناك .
الحرب جريمة وما حدث بها من جرائم تلتف في رقبة حكام الخرطوم وعلى رأسهم عمر بشير
وعصابته .
هكذا تتغير معالم مدنا وبوادي وأماكن ويختفي أناسها .. بينما أنا مقيم في امستردام منذ أكثر من
عشرين سنة ؛ فغن معالم المدينة ثابتة كما هي منذ رايتها للمرة الأولى . حتى القاهرة تتغير
معالمها وهي مدينة أقدم من أمستردام . فالتغير في المدن والأماكن ليس صفة من صفات التطور
لكنه دلالة على عدم استقرارا وقلق .تأمل نيل القاهرة الذي تتغير معالمه وجزره ويسرق الأغنياء
مناظره يستمتعون بها من داخل مساكنهم التى لا يقيمون بها إلا لماما ..مساكن تبنى عللا شواطئه
وجره ويطردون ساكنيها الأصليين من الصيادين والفقراء.
مزاج التماسيح
ثمة بلدة صغيرة في الدلتا هي شبراخيت ويقال أن عسكر نابليون أقام هناك بعض الوقت لذا
تميزت بناتها ونسائها بحسن رائق وبشرة صافية وعيون "ملونة " أحيانا . إلى هذه البلدة انتقل
والدي وكان في سنوات صحته الأخيرة من كنيسة قرية نواي – مركز ملوي إلى كنيسة
شبراخيت ..حيث مرض هناك مرضه الأخير ومات بالقاهرة .
كنت ايامها ما أوال أتعثر في دراستي السنوية في اسيوط . ومن اسيوط إلى شبراخيت سافرت
لأقضي أسخف وأفظع إجازة صيفية لي . بيتنا كان قديما متهرئ السقف تقيم بسقفه ثعابين (
هكذا قال لنا الجيران ) كنا نسمع فحيحهم في الليالي والعصارى الهادئة . لكن من خفف عليّ
شبراخيت فتاة لا أعرف اسمها ولم أخاطبها ولا مرة . كانت تتكئ "منتظرة " على حافة إفريز
نافذتها في الطابق الأرضي . خطفت عيناه الخضرواتين قلبي وعقلي وجسدي. كانت ركبتاي
ترتعشان عند رؤيتها ..وبعد سنوات طوال جعلتها ابنة القسيس في مزاج التماسيح وجعلت مني أنا
" الولد " الذي تعشقه وتهبه جسدها ( أحلام يقظة بالطبع ) لكني فشيت غيظي من شبراخيت
وأنا اكتب عن هذه المدينة في النص كما أن اسم رونسيه في النص هو الاسم الأصلي لشقيقتي
التي طالما رددناه ساخرين نحن الأولاد لنعرف بعد الإلحاح في السؤال أن آمي كانت لها صديقة
زوجة قاضي ( في السودان ) وكان اسمها رونسي ( وهو كما قيل لنا اسم وردة بالفرنسية !)
الجنرال ؛ جلبته من شخصية الفريق أول هلال عبد لله هلال الذي كان يحكمنا في اسكندرية في
محكمته العسكرية الناصرية ..وجهه الأحمر وعنجهيته " التركية " ..
وسأمر بعد سنوات بالقرب من نادي الجزيرة في الزمالك لأجد لافتة قماشية كبيرة تطالب بانتخاب
الفريق أول هلال عبد لله هلال لمجلس الإدارة .
كان هلال يقود فرقة عسكرية في منطقة سيناء .. وسرعان ما استسلم لإسرائيل دون موافقة
القيادة وبالتالي حينما قرر ناصر تقديم بعض أكباش الفداء ..كان هلال منهم وقد حكمت عليه
محكمة عسكرية بالطرد من الجيش والسجن .. لعل السادات رد إليه اعتباره .. فهو ما يزال ايامها
كان يواصل استخدم رتبه العسكرية أو كان يخدع الناس كعادة معظم العسكريين الذين يواصلون
استخدام رتبهم حتى بعد المعاش !
الضابط المسيحي في مزاج التماسيح ..كان ضابطا شرطيا مسيحيا في مدني يتردد أحيانا على
كنيستنا اسم عائلته "سدرة " .. اتذكر أن والدي أرسلني إليه وأنا في العاشرة تقريبا ، إلى مكتبه
لسبب لا اذكره الآن . دخلت عليه متهيبا وهو جالس بثيابه العسكرية البيضاء ونجومه اللامعة
وعسكري مراسلة سوداني يدق الأرض بكعب جزمته الحديدي.
وهناك أخت القمص في النص واستجلبت آمي واسمها تفيدة وسميتها باسمها ورسمت تصوري
لها الجسدي من خلال معرفتي بجسد آمي وشكلها .
ثم زكي مراد الشيوعي النوبي المحامي الذي كتبته في الفصل الخير انهي الرواية به وأشرت إلى
أن قريته اسمها الجنينة والشباك وهذا ما اعتق انه الإسم الحقيقي لقرية زكي مراد.
كمال القلش
كان اليوشا - كما كنت أحب أن اسميه – كاتب محكمة . فهو لم ينهي دراسته في كلية الحقوق ابدأ
.. لكنه لسبب غامض استطاع أن يحصل على هذه الوظيفة ( الغريبة ) .
لم أكن اعرفه أو رأيته قبل الواحات..حيث كان يقضي عقوبة ثمان سنوات سجن . قصير القامة
مدكوها يضع على وجهه دائما نظارات طبية .
ترافنا منذ أن اقمنا في زنزانة واحدة في معتقل الواحات من عام 62 وحتى شهور موته الأخيرة
في عام 2003 ( على ما اعتقد ) وهو يقارب السبعين .. اختلفنا كثيرا ووصلنا مرة إلى حد
القطيعة .. لكن مع طعننا في العمر وطعن العمر فينا استقرت احوالنا وتواصلت علاقتنا بهدوء
..مع بعض العواصف القليلة ,
وقد ذكرته بمودة ومعابثة في مزاج التماسيح واصفا احواله وأسميته " القلاّش " وكان يضحك
حينما يقرأ ما كتبته عنه .
هو قاريّء الأول لمعظم ما كتبت واستمعت إلى نصحه الذي افادني كثيرا ..كما اني طلبت منه أن
يكتب مقدمة الطبعة المصرية لبيضة النعامة فكتبها بمهارة وذكاء كعادته .
هو حريص على النقود ..حرصه ناجم عن سنوات حبس طويلة تميزت بالشحة ..وعن اعمال غير
ثابتة ، حتى استطاع بدأبه أن يعمل بشكل ثابت في صحيفة الجمهورية ثم في " العالم اليوم "
مغامر في الكتابة لكن غير مغامر في الحياة .. مثلي تزوج على كبر – كما يقولون – وبالتالي وجد
نفسه يسعى إلى الكويت خلف زوجته المدرسة واستطاع أن يجد عملا في الصحافة هناك طوال
مدة اعارتها ,
هو وفي لأصدقائه وله شبكة علاقات واسعة ومعقدة . حافظ على العلاقة مع مهندس السدود
والخزانات النهرية العظيم ابراهيم زكي قناوي حتى بعد خروجه على المعاش. كما انه لم يغير
ابدا من ولاءه لحزبه ورفاقه السابقين ولأصدقائه وخلانه .
قاريء نهم ومستوعب جيد.
نصه الروائي الوحيد " صدمة طائر غريب " كان سابقا لعصره .كما أن القلش لم يراكم نصوصا
على هذا النص وبالتالي لم يُعرف ككاتب روائي أو قاص ..او حتى صحفي " كبير" فهو اختار
ركنه الآمن ومنه واصل الحياة ، التي قضى سنوات عمره الأخيرة يحاول الاستمتاع بكاس من
الشراب وبصحبة كتاب مثل الخيام. لكن عملية القلب المفتوح حرمته من الكأس وأقعدته وقتا طويلا
في المنزل للنقاهة .
كتب شذرات قصصية من سيرة حياته ونشرها في مجلة القاهرة التي يرأس تحريرها صديقه القديم
صلاح عيسى.. لكن الموت لم يمهله ليكملها.
أحلم به أحيانا - بعد موته- وهذه عادة عندي تنامت في السنوات ى الأخيرة أن احلم بالأموات
الذين أعرفهم .
احلم به كما عرفته باشا ضاحكا ودودا.
القاهرة أسوان ..رايح جاي
منذ الصغر وارتبطت أسوان في ذاكرتي برحلة مصر السودان رايح جاي . وبعد أن استقرت السرة
في مصر وتمكنت من أن أصبح طالبا في جامعة القاهرة كنت اهرب من عائلتي واذهب إلى
أسوان غي عز الصيف بحجة زيارة خالي شاكر والإقامة معه هناك اطول وقت ممكن .
كان هو يعمل في حسابات السد العالي وترقى حتى أصبح مديرا عاما .. ثم تمت احالته إلى المعاش
في السن القانونية بعد أن اكتمل بناء السد العالي .
ولمدة من الزمن وأنا مقيم في هولندا تمنيت أن اقضي وقتا طويلا في أسوان وان افتح بارا اسميه
" لسه شوية " وفاتحت اصدقائي الهولنديين بين الجد والهزار أن " يساهموا " في لكية هذا البار
ورحبوا هم أيضا بين الجد والهزار .. بل وفاتحت يوسف فاخوري أن " يسمك " البار ووافق هو
أيضا بين الجد والهزار ..
لماذا البار سألتني زوجتي ؟ فقلت لها اني أحب البارات وبالتالي أحب أن افتح بارا ..
بالطبع أصبح البار ولسه شوية في منطقة الهزار !
لكني أخذت اسرتي زوجتي والبنت والولد وأصدقائنا أكثر من مرة إلى أسوان .
المشهد الأخير من مزاج التماسيح يدور في أسوان التي اتخيلها .. أو التي انتقتها ذاكرتي من ركام
المدن وعملت لها ذاكرتي مونتاجها الخاص لتخلق لي اسواني أنا الخاصة بي .
فأنا عادة لا استحضر شخوصي " بطينها " كما يقول التعبير الدارج المصري ..اي كما هي بل
اهذبها وأعيد تخليقها باعتباري أنا أيضا أعمل خالقا لحسابي الخاص .. عندي !
أحب في أسوان جزرها الصغيرة المطروحة بين النيل وسمائه . فهناك أحب رائحة النخيل
والأرض والماء النيلي الصافي .
ومن جزيرة أسوان جاء محمد حمام المهندس الشيوعي المغني , تعرفت عليه في السجن وتصادقنا ما
بعد السجن وعاصرت صعوده وهبوطه وانهيار صحته والشهور قبيل وفاته . وهو نموذج
للشخص الذي يمتلك كل مقومات النجاح المادي والفني .. لكن "عطبا ما " بداخله مولود به مثل
ما يقول ميكانيكية السيارات " عيب فابريكة " ينخر في عظامه ويقوده من احباط إلى آخر على
كافة المستويات الشخصية والفنية والإنسانية .. يؤدي به إلى الموت (!)
وهو ابن عمدة جزيرة أسوان .. شخص رقيق دمث وديع لكن الحياة وسوء حظه مثل سوء
اختياراته ملأته بالمرارة.
كنا في لحظات الصفاء اخطط معه كيف احصل على بيت في الجزيرة ..حيث يؤبى النوبيون
تأجير أو اسكان " مصاروة " لكن هذه الأمنية أيضا لم تتحقق
وحينما قال لي زميلي الكاتب وصديقي يحي مختار ..ان الدولة سوف توزع على النوبيين قطعا
من الأرض في أبو سنبل الجديدة .. قلت له فلنبن لنا بيتا هناك .. لكن ذلك لم يحدث .
للنوبيين والحزب الشيوعي المصري تاريخ طويل ..وبتاريخي أنا الشخصي بالنوبة والباخرة التي
كانت تبحر ذهابا وإيابا بين مصر والسودان عابرة "بلاد النوبة " القديمة قبل أن تغرقها مياه
بحيرة ناصر.. لذا أصبح ارتباطي بالنوبيين " فرض عين " لافكاك منه ولا ابغى له فكاكا !
يحي زاملني في قسم الصحافة منذ اليوم الأول وحتى الأخير ..حاولت تجنيده للشيوعية لكنه
استعصى عليّ فتركته وأبقيته صديقا خاصا . ثم اجده معي في سيارة الترحيلات من قسم الشرطة
إلى سجن القناطر ! دهشت فأنا لم اجنده واعرف بحكم وضعي التنظيمي أن لا علاقة له باي
تنظيم شيوعي .. فما الذي اتى به ؟
عرفت بالتدريج أن اعترافات من اشخاص محددين على كل مجموعة صحافة ( كنا سامي خشبة
وحسين شعلان ويحي مختار وعواطف عبد الرحمن ونجلاء حامد وأنا ) وسبقنا عبد السلام مبارك
60 ) ثم جاء عبد الحكيم قاسم نتيجة مراقبة – في حملة السنة الماضية ( ديسمبر - يناير 95
المباحث وضموه إلى القضية وطالب حقوق اسمه كريم وهو صديق لأصدقاء عبد الحكيم أي
شوقي خميس .
بقي يحي معنا في السجن اربعة عشر شهرا تحت المحاكمة وقبل ذلك بضعة شهور تحت التحقيق
في القناطر .. لتفرج المحكمة عنه وعن شوقي خميس وعن شخص آخر اسمه ميلاد .
في سجن اسكندرية كنا ثلاثة في الزنزانة .. يحي وشوقي وأنا ..نتقاسم الطعام والسجائر
والاحباطات والأخبار .
لم تكن معنا اوراق وليس مسموحا بها .. لذا كان شوقي يكتب اشعاره على حائط الزنزانة .. بينما
يتهدج يحي حبا في "خطيبته " التي تزوجها بعد الإفراج وهو الآن جد محترم..
يكتب يحي بعد ذلك روايته الأولى القوية عروس النيل ..ويتبعا بروايات وأعمال مختلفة ..تتحدث
جميعها عن النوبة القديمة وبها بعض الألفاظ النوبية .
هو مع إدريس علي يشكلان عمودان من أعمدة الثقافة النوبية في مصر. لكن يحي تعلم من
تجربته السياسية في السجن أن لا يخاطر بحريته .. لذا فهو نوبي مسالم بل انه يرفض أطروحات
شخص مثل حجاج ادول ، التي يعتبرها يحي متطرفة ولا تمثل آراءه الحقيقة في ما يجب أن تكون
العلاقة بين النظام الحاكم والنوبيين .
التقيته مرة اثر عودتي من امستردام في المعادي حيث يقيم وحيث يقيم أيضا صديقنا المشترك
علاء الديب الذي قررنا أيضا زيارته. قال لي يحي متوترا بعد أن التقاني في محطة المترو انه
زعلان مني فلما سألته مندهشا بأني لسه واصل من امستردام ولم الحق افعل شيئا بعد يستحق
الزعل قال انه زعلان لأني سأدخل النار .فسألته ضاحكا .. طيب لماذا لا يتشفع لي يوم القيامة أن
كان هناك يوم كهذا ؟ فغضب مستاء هذه المرة وقال أن أفكاري ولساني هي السبب في زعله مني .
قال انه يعرف جيدا اني غير مؤمن بالمسيحية فلماذا لا أعلن إسلامي وأتلو الشهادتين ويا دار ما
دخلك شر؟ فقلت له جادا ولله يا يحي ما عندي مانع أتلو الشهادتين الآن ..وبالفعل تلوت
الشهادتين ثم قلت لكني أيضا لا أؤمن بأي دين فما الفائدة ؟
كنا قد اقتربنا من بار يعرفه .. فقال يحي الدمث الطيب : تعال نشرب كأسا نحتفل بقدومك عشان
علاء ممنوع من الشرب !
علاء الديب ..كتب عني أول مرة دون أن يعرفني أو حتى يلتقيني بمناسبة صدور كتابي " صباح
الخير يا وطن " الذي كتبته باعتبار ر انه شهادة شخص لا يحمل سلاحا عن بيروت الغربية
. المقاتلة ضد شارون عام 82
ثم تعرفت عليه وتوثقت علاقتنا بعد بيضة النعامة حيث كان أول من كتب عنها في مصر بل وفي
العالم العربي .
أهديته مجموعتي القصصية صانعة المطر . أحببت أن اهديها له اعترافا بدوره العام في متابعة
معظم الكتابات الإبداعية بالإضافة طبعا إلى أعماله هو مثل " زهر الليمون " وقمر على مستنقع
.. وغيرها
أود الآن أن ارجع فاكتب قصصا قصار .. لأني بعد ايثاكا كنت قد احسست بالإنهاك البدني
والروحي ..ثم حينما أكلت " شاتنج " احسست اني نضبت واني بقيت شبه " مفرغ " من اعمال
طويلة تستنفد الجهد. فأنا بطيء في الكتابة وموسوس .. يأخذ النص المتوسط الطول مني مثل ايثاكا
أكثر من سنتين من الكتابة المتواصلة حتى في ايام العطلة والأعياد !
وبدأت بتجربة " كنتُ أضحك في حلمي " وهي عن تجربة الحلم وما يحدث فيه ثم ربطها
بتجربة مقاربة في الحياة . توقفت لأني انشغلت بأشياء أخرى كتابية طبعا .. فقد كنت اكتبها إثناء
كتابتي شاتنج وبالفعل لم استطع الدخول في عملين في وقت واحد .
صانعة المطر
كانت تجربة هامة وخاصة في الكتابة .. فهي كانت مسودات لقصص لم تكتمل وأفكارا غير
ناضجة.كنت اكتب في مزاج التماسيح وهي نص معقد ومتعب . توقفت لأني لم اجد دربا اطرقه.
تذكرت هذه الحكايات فقعدت اشتغل عليها. هي بالفعل حكايات .. فالغرباوية شخصية حقيقية تبيع
الخضروات في السوق ..كان ذلك سوق بور تسودان التي وصلت إليها مع صديق هولندي . المرأة
الانجليزية هي سيدة هولندية كانت تعمل بالسفارة الهولندية بالخرطوم . دعتنا على العشاء عندها في
البيت . في منتصف العمر وكما وصفتها في القصة . بالطبع لم يكن هناك صديق شاب للغرباوية
لكن الغرباوية التي رأيتها في بيت الهولندية كانت أيضا تبيع الخضرة في سوق أ صغير قريب من
بيت الهولندية . لعلها كانت تمونها بالبانجو الذي كانت الأخرى تحب تدخينه.
في اليوم التالي اخبرني الهولندي انه سيلتقي اناسا دبلوماسيين ( هو دبلوماسي شاب ) هولنديين
فتملصت منه ودعيت نفسي عند الهولندية بعد أن أخذت هاتفها منه .
قضيت وقتا "خاصا " مع الهولندية وبقيت معها حتى الصباح بينما كانت صديقتها الغرباوية تبيت
في غرفة النوم الأخرى .
في قصة القديسة آن : كنت قد التقين بآن بولندية تعمل في جنيف حينما كنت أنا أيضا اعمل في
تظيف المراحيض هناك. آن كانت تعمل في مكان أرقى ..تعرفت عليها من خلال اصدقاء بولنديين
استضافوني عندهم . لقد حدث بيننا _ تقريبا – ما حدث في القصة مع اختلاف اساسي .زان القصة
كانت تحكي عن طقس احتفالي في قرية سويسرية.. بينما التجأنا آن وأنا إلى غابة مجاورة بالقرب
من مزرعة ذهبنا إليها لسبب لا أذكره الآن .
في القصة التي بعنوان صانعة المطر كنت قد كتبت سابقا عن ملابساتها وعن التلصص الذي كنت
اقوم به مع صديق طفولة آخر على البنات في حمامهن المشترك بعد طقس " الحلاوة "
ميشا
احتلت ميشا البولندية حيزا هاما من بيضة النعامة كما أنها احتلت وتحتل حيزا هاما في حياتي حتى
الآن رغم انا لم نلتق سوى مرتان. مرة في العام 76 حينما استغليت أول نقود حقيقية احصل
عليها من عملي في العراق وإجازة بدء العام . أتصل بها مترددا ( كنت قد تزوجت في السنة السابقة
من بربارا البولندية ).. كنت على مشارف طلاقي الأول ومحبطا . اتصلت بها فدعتني بدون تردد
.. مع اني لم أكن محتاجا إلى مكان مجاني ..لبيت الدعوة وركبت الطائرة وأقمت بضعة ايام في بيتها
..كانت هي في علاقة مع شاب يصغرها بحوالي عشر سنوات أو أكثر ( هي تقاربني في العمر ) ..
ثم دبرت لي مكانا عند صديقة لها اعرفها أيضا ..واتفقنا أن أدفع لها مبلغا من المال حيث أنها
تكتب للصحافة والتلفزيون من الخارج فري لانس
كانت منظمة تضامن في اوجها وتكاد أن تنتزع السلطة من (النظام القديم الشيوعي ) .
ميشا تمثل لي الطبقة المثقفة والتي تضرب جذورها عميقا في ارض بولندا.هي لم تنضم إلى الحزب
الشيوعي ؛ وتعمل باحثة في الجامعة في قسم الدراسات الإفريقية ، وكانت تشرف ذات سنة على
نادي اتحادات الطلاب الأجانب ..وهناك تعرفت بها وأقمنا علاقة طويلة.
عملها كان مهددا لأنها غير حزبية وتأبى هي أن "تساوم " وتنضم إلى حزب غير مقتنعة به وترى
من اجهزته عنتا وصلابة رأي وغباء .
حينما تعارفنا كنا في منتصف ثلاثيناتنا .. هي أم لابنة في حوالي الرابعة عشر ومطلقة من زوج
يعمل قبطانا في "اعالي البحار" ( بعد ذلك سوف يستميل زوج أخت ميشا ابنة ميشا المراهقة
القاصر ويقضي وطره منها . هو مدرس جامعي وزوجته كذلك . هو سكير لا يفوق إلا في النادر.
حكت الابنة لأمها ما حدث .قررت ميشا أن تقول لأختها وان تواجهانه . وبالفعل تواجهوا .. بكى
الرجل واعتذر .. تمت تغطية الموضوع )
كانت علاقتي بالابنة "عادية " .. وكنت اعلم أنها أيضا بدأت تدمن على المخدرات التي كانت
عقوبتها قاسية في بولندا ..ادخلتها أمها مصحة للعلاج وكنت ازورها أحيانا .
هذه حياة أسرة بولندية صغيرة ..نجد أن أختا كبرى لميشا كانت قد افلحت أن تتسلل إلى السويد
وتحصل على لجوء سياسي .. ثم لحقت بها ابنة ميشا وبعد ذلك بسنوات لحقت بهن ميشا
.وسوف اجد خلال اقامتي في بولندا أو مدن غربية أن البولنديين قد هاجروا ..ويواصلون الهجرة
منذ امد بعيد . وبالطبع كانوا ما الأيرلنديين من اوائل المستوطنين في امريكا.
الشقق والبيوت البولندية التي تعود للعمال وطبقة الانتلجنسيا ضيقة ومكدسة . فالجيش النازي
الألماني في الحرب العالمية الثانية حطم البنية الأساسية للدول التي احتلها . صحيح أن النظام
الماركسي الجديد استطاع أن يحشد الاهالي لإعادة بناء مدنهم المخربة .. لكن المباني القائمة لا
تلبي احتياجات الناس هناك.
لذا ليس من الصعوبة ممارسة زنى المحارم في ظروف كهذه.
كانت ميشا هي أول علاقة طويلة ومنتظمة مع امرأة . تعرفت عليها في منتصف اقامتي ببولندا.
وكنت – مثل معظم الطلاب الأجانب – استمتع بالعلاقات مع البولنديات اللاتي لم يمانعن في اقامة
علاقات سريعة مع الأجانب . كنا نوعا جديدا من الفاكهة ..وكانت البولنديات بما عرف عنهن من
استقلالية يقبلن بشراهة على هذه الفاكهة .. ثم أن الحرب قضت على عدد مهول من الذكور كما أن
نسبة المواليد كانت منخفضة وعلى الأخص الذكور .
الإناث كن أكثر من ضعفي عدد الذكور آنذاك !
لذا بعد فترات طويلة من الصياعة استقرت اموري مع ميشا التي تقاربني في العمر ..اقضي معها
معظم أوقات فراغي عدا بعض السرقات التي كنت اقوم بها أسرق اجساد البنات الأخريات في
غفلة منها هي التي كانت تتابعني بعيني صقر .
ها أنا علاقة جديدة عليّ تماما وعلى الثقافة التي قدمت منها وبعد تجربتي المزعجة مع
سفيتلانا ( نور ) حينما كنت في القاهرة بعد الإفراج ..علاقة - بعد أن استقرت - لم أعد اواجه
نفسي بأشياء يصعب عليّ تحقيقها مثل كل علاقة جديدة . هذه علاقة "رفق" تشبه الزواج ..طبيخ
وغسيل وأصحاب مشتركين أو اصحاب جدد وأهلها تعرفهم عليّ ومرواح مشترك للنادي والسينما
..بل وفراش مشترك ومسؤولية مالية شبه مشتركة ( من ناحيتي حيث كان دخلي من المنحة
هزيلا) لكن الجنس هنا امتزج بالحب ( أو قل الولع ) ..جنس مستقر (!)
من ميشا ومن " الاستقرار الجنسي " الذي استمتعت به معها وببعض ما ملكت تيماني
.. تغير مفهومي بسرعة دراماتيكية عن الجنس والمرأة . هذا تغيير لن تفلح سفيتلانا أن تفعله في ؛
غالبا لقصر المدة ولصغر سني وقلة تجربتي . التغيير الحادث جنسيا هو أن الجنس تحول إلى متعة
مشتركة وليس فردية تخصني ( أو تخصها ) لم يعد الجنس اداة " اثبات " ذكورة أو فحولة ..لكنه
أصبح اداة لجلب البهجة بل والضحك ..اذا بدأنا "ننكت " على بعض خلال الفعل الجنسي خاصة
إذا لم يحدث لي انتصاب كما ينبغي لأي سبب من الأسباب .
لم تعد تهمني عدد المرات .. لم يعد "الوقت الإيلاجي " هاما بل حل محله الوقت الجنسي
..اي الوقت الذي نقضيه كلانا في مداعبة وتحقيق بعض فنتازياتنا .
لأول مرة تقول لي امرأة أنها تحبني .. وأصدقها فهي لا تبغ شيئا من وراء معرفتي بها أو حبي
لها وحبها لي . هذه أيضا تجربة جديدة عليّ تماما حيث كنت في السابق في مصر استخدم اصطلاح
الحب لنيل مآربي .
قضيت وقتا طويلا قبل أن اعرف اني احبها أو لا . لأنه أيضا ليست لي سابق خبرة في حب متبادل
ومشبع جنسيا . فالحب في مصر كان من طرف واحد ..مني وبالتالي لم يكن للجنس علاقة ما به أو
بي . كان حبا عذريا محبطا .
رين لكنها لا تخبئها × أنا الآن اعرف أمها وإخوتها وابنتها وهي مثلي لا تجاهر بعواطفها أمام إلا
؛ تقول لهم اني " حبيبها "
..الصب تفضحه عيونه !
هي أصبحت عائلتي في غربة يحوطها الجليد والوحدة والسأم . طبعها السلافي الحار المتقلب وائم
طبعي الإفريقي المتقلب أيضا ..لذا تواصلنا ونتواصل حتى الآن على البعد. هي في السويد وانا في
امستردام ؟ نتحدث بين وقت وآخر بالتليفون . هي جدة . حفيدتها السمراء من ابنتها وكونغولي لاجئ
في السويد جاءت امستردام فدعوتها للعشاء في بيتنا . اولادي وزوجتي يعرفون عنها الكثير ..لذا
رحبوا بالحفيدة التي أيضا اسمها ماريا .. وتدليع الإسم يصبح ميشا !
نساء بولندا وبناتها علمنني الحب والجنس واعدن لي مراهقتي المفقودة وسنوات شبابي التي قضيتها
في السجن . علمنني احترام الأنثى ومحبة صحبتها بعد الجنس وقبله .لم يعد الجنس عندي قنصا أو
صيدا ولهفة . بل أصبحت الأنثى إلهة تعبد وترد لي العبادة بالتوله فيّ وفي ذكورتي . لم يحدث لي
هذا من قبل .
يتحول الجنس معهن إلى بهجة متبادلة .
كن اساتذتي .
كنت تلميذا نابها !
النساء في حياتي : قطبان ؛ سالب وموجب . ابتعد عن السالب ويجذبني الموجب .القطب السالب
يسحب طاقتي ويستنفذها في التراهات والتفاهات والقيل والقال . الموجبات تدفعنني إلى الأمام
وسترددن ثقتي بنفسي ويقوين من عزيمتي ويمتّنّ إرادتي .
السالبات يذكرنني بوجودهن دائما حتى أمل منهن .حركتهن أما بطيئة إلى حد الإرهاق أو سريعة
متوثبة مثل ارنب مذعور ، فيرهققني أيضا إلى حد الإنهاك.
محظوظ أنا بان الموجبات أكثر من السالبات . العاطيات المانحات ، المسامحات أكثر من
الشحيحات في عواطفهن .
الشحيحات في العواطف بخيلات الجسد باردات الفعل ثليمات الخيال ناقصات الفانتازيا. بالعكس من
كريمات العواطف ، فهن معطاءات الجسد كاشفات عن كنوزه المخبوءة ،منتظرات بشغف لحظة
الكشف فينفجرن متوهجات مثل الشهب معلنات عن بهجتهن بسرور واضح بلا خجل، فيضفن إلى
متعتي بهن ولعا وامتنانا . يصبحن مثل حقول الحنطة الناضجة يطبن للآكال وحينما تعصرهن بين
الحقوين يفحن عطرا ولهبا وبردا ونارا يتضوعن كالياسمين في الفجر وقد اثقله الندى.
كتاباتي عن النساء احاول أن أصل اليهن . إلى اعماقهن الخبيئة مثل "خبيئة اثرية " خبئها اصحابها
خوفا عليها من اللصوص وحماية لها من ايدي عابثة لا تقدّر جوهرها.
هن أحيانا متوحشات متغولات؛ ساعتها يجب الابتعاد عنهن حتى نهدأ ثورتهن . تصبح الواحدة
منهن ألف ميدوسا ، فيكون الهروب من امامهن هو الحل الأوحد للنجاة من غائلتهن .
أحيانا يكن مثل النسيم الرقيق ، يهفهفن على الجراح المدماة